أطلقت وزارة الصحة العامة، أمس، مشروع التغطية الصحية لمن هم فوق الـ 64 سنة، في السرايا الحكومية. هذه المناسبة، التي أجمع الكل على وصفها بـ«الجريئة»، دونها مخاطر ومصاعب، لعلّ أهمها الإصرار على خلق أنظمة صحية جديدة ستضاف إلى الأنظمة الموجودة السيئة والتمييزية، من دون الالتفات إلى أن المشكلة الأساس تكمن في تغاضي الدولة عن واجباتها المتمثّلة بإقامة نظام تغطية صحية شاملة لجميع اللبنانيين من دون تفرقة أو تمييز
75% من القوى العاملة اللبنانيّة غير خاضعة لأي نظام تقاعدي. هذا ما تقوله التقديرات، وما يقوله الواقع المعيش. 75% بلا معاشٍ تقاعدي وبلا ضمانٍ صحي. وهي ليست نسبة عابرة.
هي مشكلة حقيقية رسّختها سياسات الدولة اللبنانية، بتشتيت نظم التأمينات الصحية القائمة وبعثرتها، ضاربة عرض الحائط بحلم كبار السنّ بضمانٍ «يعفيهم» من مخاطر الشيخوخة، والوقوف ذليلين عند باب وزارة الصحّة والأحزاب الطائفية والمحسوبيات السياسية.
فالنظم الصحّية «العفشيكية»، ستدفع بمن قضى عمره في العمل لتحصيل لقمة العيش إلى أن يصرف تعويض نهاية خدمته بعملية واحدة في مستشفى لا يرحم. هذا الخطر الأول، أما ما يتبع، فهو الأسوأ، حيث إنّ الظروف المعيشية الصعبة لا تشكّل مخاطر على كبار السن فقط، وإنّما ترتّب كلفة باهظة على من يُفترض أنهم يؤسسون حياتهم الأسروية. وبعملية حسابية بسيطة، سيحمل الشاب «كلفة» صحة والديه، الى جانب أولاده، في ظل تآكل الأجور واندحار قيمة العمل. تكفي الدلالة أنّ «80% من الإنفاق الخاص على الصحّة مصدره ميزانيات الأسر»، وهذا الواقع قام في ظل استبعاد نصف الأسر تقريباً من أي تغطية صحية مستقرة ودائمة، ما عدا ما تمنّ به وزارة الصحة في ظل سيادة “الزبائنية” على تقديمات الدولة. أضف إلى كلّ ذلك، أنّ النظام الصحي الحالي «يتسم بوجود فائض في العرض (نسبة الأطباء والأسرّة والتجهيزات والصيدليات إلى عدد المقيمين)، ما يساهم في تكريس مستويات مرتفعة للكلفة الصحية ويضغط على الموارد الاقتصادية المتاحة مع تجاوز الفاتورة الصحية الإجمالية للمجتمع عتبة 12% من الناتج المحلي»، بحسب التقارير المنشورة.
كل هذا يتطلّب العمل على إيجاد حلّ بنيوي للنظام الصحّي في لبنان، بما يؤمن خفض الكلفة، من خلال ضرب الاحتكارات في سوق الدواء والهدر في تمويل المستشفيات وتأمين حق متساوٍ لجميع اللبنانيين بالصحة. أو بتعبيرٍ آخر، «الانتقال من نظم التأمينات الصحية الراهنة، المتّسمة بالتشتت وعدم الشمولية والتفرقة، إلى نظام وطني موحّد شامل للتأمين الصحي الإلزامي»، على أن يكون مموّلاً من الموازنة العامّة… والكفّ تالياً عن تركيب الطرابيش عبر خلق نظام صحّي سيضاف إلى الأنظمة الموجودة، والتي لن يكون آخرها مشروع «التغطية الشاملة لاستشفاء غير المضمونين من عمر 64 وما فوق»، الذي أعلن عنه، أمس، في السرايا الحكومية برعاية رئيس مجلس الوزراء تمام سلام.. ونصاب شبه كامل للوزراء.
بحسب الإعلان أمس، يفترض أن تعمل وزارة الصحّة على رفع التغطية الصحّية لمن هم فوق الـ 64 عاماً من 85% إلى 100%. وبعملية حسابيّة قامت بها الوزارة، يفترض أن تكون الحاجة لسدّ هذه الـ 15% بحدود 17 مليار ليرة، أي ما معدّله 2,7% من موازنة الوزارة. وهي «نسبة معقولة»، في رأي وزير الصحّة العامة وائل أبو فاعور، إذا ما اعتمدنا في تمويلها على جملة أشياء، منها مثلاً «زيادة اعتمادات الوزارة الملحوظة من ضمن موازنة العام 2017»، و«الوفر» الذي جرى وسيجري تحقيقه من خلال «آلية ضبط النزوح من الضمان الاجتماعي وشركات التأمين الخاصة إلى وزارة الصحة، ومن نظام التدقيق في الفاتورة الاستشفائية ونظام التدقيق في المستشفيات». وقد لفت أبو فاعور «الأخبار»، إلى أنّ الوزارة «تمكنت من توفير 7% عبر نظام التدقيق في الفاتورة الاستشفائية و5% عبر نظام التدقيق داخل المستشفيات».
لكن، هل يكفي هذا الأمر وخصوصاً في ظلّ الحديث عن 18,5% ممن هم فوق الـ64 عاماً ــ أي ما يعادل 55 ألف مريض مسنّ من إجمالي المرضى المعالجين على نفقة الوزارة ويستهلكون ما نسبته 31% من إجمالي الإنفاق على الاستشفاء؟ وكيف ستتصرف المستشفيات الخاصة في ظلّ هذا الواقع، وهي التي تطالب بزيادة التعرفة على الفاتورة وتطالب أيضاً بمستحقاتها العالق بعضها منذ عام 2000؟ وماذا عن واقع الدولة المأزوم اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وصحياً؟
لا يجد أبو فاعور حرجاً من الحديث عن تعويله على «تفهّم المستشفيات وكلام نقيبها الطيب، وعلى وزير المال علي حسن خليل الذي لم يُشف بعد من ندوب وزارة الصحّة واحتضان الرئيس تمام سلام لهذه المبادرة».
لكن، هذا لا يكفي، ففي ظلّ إجماع الكل، أمس، على جرأة المبادرة وأهميّتها، إلا أنّها أشبه بمغامرة غير محسوبة، تحمل الكثير من المخاطر «وتحتاج إلى سلسلة من الإجراءات البنيوية لمقاربة الموضوع الذي عجزت عن مقاربته دول كثيرة متقدّمة»، بحسب وزير المال، علي حسن خليل. والمعضلة هنا ليست معضلة مالية بقدر ما هي مشكلة بنيوية «تبدأ من الحاجة إلى منظومة رعائية صحية متكاملة تبدأ هي الأخرى من الرعاية الصحية الأولية لتصل إلى مرحلة الدخول إلى المستشفى لمن هم فوق الـ 64 عاماً».
من جهته، لم يجد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون بدّاً من إعلان العجز أمام «الخطوة الجريئة»، فللمستشفيات في ذمة الوزارة مستحقات لم تدفع منذ عام 2000، أضف إلى مطالبتها برفع التعرفة على الفاتورة، وهي مطالبة بها قبل الحديث عن تغطية الـ 100%. أضف إلى ذلك أن تحقيق هذا الأمر «يحتاج إلى تضافر الجهود على 3 أصعدة: المستشفيات والأطباء والدولة والمواطنين». وهنا، طالب هارون الدولة بـ«تعزيز رقابتها» لضرب الاحتكارات، «إذ لا يعقل أن يكون سعر الأمصال أربعة أضعاف سعرها في مصر مثلاً، في ظل احتكارها من قبل شركتين» أو ما يخصّ أسعار الأدوية والمستلزمات الطبية واستيراد المعدات الطبية. لكن، كل ذلك، لا يمكن أن يلغي ما تقوم به المستشفيات من احتكارات ورفضها استقبال المرضى أيضاً.
107.4 مليارات ليرة كلفة استشفاء كبار السن
قدم المدير العام لوزارة الصحة، وليد عمار، عرضاً تقنياً للمشروع، فأشار إلى أنّ عدد الذين يتطببون على حساب وزارة الصحة بحدود مليوني مواطن، وتبلغ حالات الاستشفاء 254 ألف حالة، أي ما نسبته 12% من الذين يدخلون إلى المستشفيات. أما بالنسبة إلى من هم فوق الـ 64 عاماً، فمن بين 114 ألف مواطن يستفيدون من الوزارة، يدخل 54 ألفاً و729 مريضاً للاستشفاء، أي بنسبة 43%، وهو ما يعادل 4 أضعاف المعدل العام لدخول المستشفى لمن هم دون هذه الشريحة. وتبلغ تكلفة الفاتورة الصحية لمن هم فوق الـ 64 عاماً 107 مليارات و385 مليون ليرة، قياساً لنسبة الـ 85% التي كانت تدفعها الوزارة، ومع التغطية الشاملة المفترضة ستزيد النسبة 17 مليار ليرة لبنانية.