في هذا الزمن الرديء، تتوالى الأزمات وتتشعّب التداعيات على مختلف القطاعات، ولا سيما منها القطاع الصحي الذي يخوض مواجهات عنيفة للقضاء على الاوبئة، واللحاق بموكب التشخيصات المتقدمة والانخراط في العلاجات الشافية والسريعة.
هناك انعكاسات عديدة على النظام الصحي العالمي متمثّلة في نقص الأدوات والمستلزمات ونقص أجهزة التنفس الاصطناعي ونقص الكوادر الطبية والتمريضية، ونقص في غرف العناية المركّزة والأسرّة في المستشفيات، لكن تلك الأمور استطاعت العديد من الدول التغلّب عليها.
وفق منظمة الصحة العالمية «تقع المسؤولية الأولى في ما يخص الأداء الإجمالي للنظام الصحي الوطني على عاتق الحكومة، كما أنّ تعزيز النُظم الصحية وجعلها أكثر إنصافاً يُعدّ من الاستراتيجيات الأساسية لمكافحة الفقر وتعزيز التنمية».
واذا كان العالم يحصّن استنفاره، وعلماء الأوبئة والعاملون في إدارة القطاعات الصحية يتوجّسون من تكرار سيناريوهات أوبئة سابقة او حتى بروز جائحة جديدة، فإنّ أزمة وباء كورونا أدرجت في مجموعة الأزمات المالية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية التي يعانيها لبنان، والنتائج الأولية كانت بتراجع الناتج المحلي بما لا يقل عن 40%، وهو قابل لزيادة التراجع كما أنه سيسجّل ما نِسبته 60% تراجعاً في الاستيراد، هذا عمّا عَداه من تغييب لفرص العمل والارتفاع التصاعدي لمعدلات البطالة والفقر المدقع.
لقد سبقت الأزمة المالية في لبنان تفشي هذا الوباء، وبالتالي فإنها ستتفاقم وترفع من نسب المديونية العامة للبلاد التي ـوصلتها السياسات الخاطئة الى محطة جهنّم.
لقد تمّ إرهاق القطاع الاستشفائي الخاص الذي يغطي نسبة تتراوح ما بين 80 و90% من سوق الاستشفاء في لبنان، بسبب ديون له بذمّة الهيئات الضامنة الرسمية تعود تواريخها لسنوات ماضية تعثّرت فيها الموازنات الملحوظة للصحة، وأهملت النفقات المخصصة لها لصالح نفقات أخرى. ترافَق ذلك مع التمسّك بتعرفات مُجحفة لم تعد تراعي القواعد العلمية والكلفة المتصاعدة للعلاجات والخدمات الصحية.
حالياً، تبلغ قيمة الفاتورة الاستشفائية للمرضى الذين هم على عاتق المؤسسات الضامنة، والتي تغطيها وزارة المال، حوالى 100 مليار ليرة لبنانية شهرياً. وبالتالي، فإنّ ما يستحق للمستشفيات الخاصة فقط دون الحكومية لغاية آخر ايلول 2020 يبلغ 900 مليار ليرة. اضف الى ذلك، فإنه وفق بيان وزارة المال الأخير هناك عجز عن العام 2020 وحده يزيد عن 700 مليار ليرة، هذا عدا عن المستحقات المتوجبة على الطبابة العسكرية والقوى الامنية الاخرى وسواها عن العام 2019 وما قبل.
وفي غضون ذلك، ومع تفشي فيروس كورونا عمد البعض الى توجيه اتهامات الى المستشفيات الخاصة ووَضعها تحت ضغوطات ليست في محلها، لعدم تمكنّها من استقبال حالات كورونا، الّا اننا أعلنّا موقفنا الصريح، وهو انه منذ بدء ظهور الوباء تعاطينا مع الموضوع بشكل جدي وعلمي، إنطلاقاً من معرفتنا للواقع الصحي والاستشفائي في البلد، وأوضحنا مراراً، إن كان من خلال اجتماعاتنا مع المسؤولين او في اللجان المختصة التي شكلّت لهذا الغرض، او لجنة الصحة النيابية، انّ هناك صعوبات جمّة تواجهها المستشفيات للقيام بواجباتها على هذا الصعيد، واهمها:
اولاً: من الناحية الهندسية، فالعديد من المستشفيات لا يمكنه تخصيص قسم منفصل لكورونا عن المستشفى وفق ما هو مطلوب، حرصاً على عدم تفشي العدوى داخل المستشفى.
ثانياً: هناك استحالة لدى البعض الآخر لتخصيص قسم لكورونا نظراً للمشاكل المادية التي يعانيها، خصوصاً انّ شراء التجهيزات للازمة مكلف، فيما المطلوب هو تسديد ثمنها نقداً وفقاً لتقلبات سعر الدولار في السوق السوداء.
ثالثاً: صعوبة تأمين مستلزمات الوقاية الشخصية التي ارتفع ثمنها بشكل جنوني.
رابعاً: النقص في الطواقم التمريضية بشكل عام، وخصوصاً الذين لديهم استعداد للعمل في هذا القسم بسبب ارتفاع نسبة انتقال العدوى اليهم.
خامساً: انّ عدداً من المستشفيات الخاصة يستقبل مرضى كورونا، ويبلغ عدد الاسرة المخصصة لهذا الغرض 400، منها 100 سرير للعناية الفائقة، أي ما يوازي تقريباً ما هو متوّفر في المستشفيات الحكومية.
في ضوء هذه المعطيات، إنّ الضغوطات المعنوية التي تتعرض لها المستشفيات، والكلام الصادر من جهات متعددة عن انها مقصّرة في التعاون من اجل استقبال مرضى كورونا، وكأنّ المقصود جعلها كبش محرقة، هو غير مفيد، لا بل من الأجدى دعمها بالسيولة النقدية وبالمساعدات العينية، من آلات ومعدات ولوازم طبية، لكي تتمكن من الصمود والقيام بهذا الدور.
أضف الى ذلك، فوجئنا اخيراً بتعميم وسيط صادر عن مصرف لبنان حمل الرقم 572 يتعلق بالإجراءات الاستثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية، بعدما لمسنا فيه المزيد من العراقيل المقيّدة للقطاع الاستشفائي الذي يئنّ تحت أزمة سيولة نقدية لا سابق لها، تمنعه من تأمين المستلزمات الطبية اللازمة المُسَعّرة بالدولار الاميركي وتسلّمه رهينة لمزاجيّة وفلتان السوق السوداء بهدف الحصول على الاموال الجديدة Fresh Money. فهذه التعاميم تعقّد أكثر فأكثر حلقة وشراء واستيراد وتسليم هذه المواد الضرورية، بَدل منحها تسهيلات خاصة تأخذ بعين الاعتبار أسباب دخولها الى السوق اللبناني.
لا يجب ان يغيب عن بالنا انّ الامن الصحي دخل كأحد مُرتكزات استقرار الامن العالمي وأحد مهددات هذا الامن. ولكي يبنى على الشيء مقتضاه، لا بد من إعادة النظر والاهتمام بشكل واسع وعالمي به.
لم يعد امامنا سوى إطلاق النداء: «الأمن الصحي كما الغذائي في خطر أكيد، والتغاضي عنه أمر معيب، فهل من مستجيب؟».