IMLebanon

نصر الله في مواجهة « التنابل»؛ حُرقة القلب العربي

واجه خطاب الأمين العام، حسن نصر الله، حول اليمن، هجمة واسعة. الجديد فيها أنها شملت، هذه المرة، نقّاداً جدداً، ليس فقط من الصفوف المعتادة من السلفيين والطائفيين والليبراليين المتسعودين، بل، أيضاً، من صفوف «يساريين» و»قوميين» و»ليبراليين وطنيين» وعلمانيين…

من الواضح، إذاً، أننا بإزاء حملة، نجتهد، في تفسيرها، كالتالي: أولاً، تزايد كثافة نشاط الشبكات السعودية ــــ القطرية ــــ الإخوانية، منذ تصاعد نجاحات الثورة اليمنية، باتجاه دفع المزيد من الخلايا السياسية والإعلامية النائمة للهجوم على نصرالله، من زوايا غير مسبوقة، «قومية» و»علمانية»، ثانياً، إغلاق المنابر أمام الأصوات المضادة لتلك الحملة، ومنع أي نقاش بصددها، ثالثاً، اتساع نطاق المتوترين مذهبياً إزاء تنامي الحضور الشيعي في آسيا العربية. العاملان، الأول والثاني، مصطنعان مموّلان، ولا قيمة، بالتالي، لهما. لكن العامل الثالث مثير للقلق فعلا؛ فالهوّة السنية ــــ الشيعية تتعمّق، أكثر فأكثر، بل ويكاد الفايروس المذهبي أن يضرب أقساما من الأوساط المتنورة والمدنية والعلمانية.

يعرف المثقف العربي الكثير عن مصر ولبنان. وهما بلدان يهيمنان على المعرفة السياسية المتداولة والتغطيات الإعلامية. بالمقابل، فإن بلدين بالغيّ الأهمية، مثل سوريا والعراق، ما يزالان مجهولين، من حيث الوعي بتركيبتهما الاجتماعية والثقافية والجهوية والدينية والمذهبية وأنماط الأيديولوجيا المحلية الخ؛ فماذا إذا انتقلنا إلى بلدان واقعها العياني خارج التغطية، كالسعودية والبحرين واليمن؟

وعلى خلفية الجهل والتجاهل، هذه، يبدو للرأي العام العربي أن تضافر ظواهر متزامنة (مثل تحوّل حزب الله إلى قوة إقليمية والصمود السوري ونهوض الحركة الشعبية العراقية والحركة الديموقراطية البحرينية والثورة اليمنية والحياد العُماني)، وكأنها صدمة مدوّخة إزاء «مؤامرة» شيعية، نسجها الإيرانيون، بل «الفرس المجوس»!

الأغلبية، المدّعية العروبة، مطبقة الجهل حيال البنى الاجتماعية ــــ السياسية ــــ الثقافية للبلدان العربية؛ لا تعرف شيئاً جدياً أو ملموساً حول تاريخيّة الحضور المسيحي العربي، إلا أنها تعرف أقلّ عن التعددية المذهبية، شديدة التعقيد، خارج المذهب السني، بل قل المذهب السني ــــ الوهابي ــــ الاخواني المسيطر. هكذا، يصبح العلويون والاسماعيليون والزيديون والاباضيون الخ، «شيعة»، ككتلة صمّاء لا كفضاء تعددي. ومن المفروغ منه، والحالة هذه، أن تكون المعرفة بالشيعة (الاثني عشرية)، بالغة السطحية والنمطية، لا تدرك ما في التشيّع من مدارس واتجاهات واجتهادات، وتُلحق جميع الشيعة العرب بالتشيّع الإيراني. وتكون خلاصة هذا الوعي الزائف كالتالي: كل مَن ليس وهّابيا، ليس عربيا، بل أداة «فارسية».

حاول نصرالله ، في خطابه الأخير، تفكيك الصورة النمطية المعمّمة إزاء العلاقات التي تربط قوى عربية بالإيرانيين. مقاربته ــــ الصحيحة تماما ــــ تقول إن الحكام العرب الذين يحتقرون الشعوب، عاجزون، بالضرورة، عن إدراك وجود الإرادات المحلية الذاتية للقوى الشعبية، مثلما هم عاجزون عن تصوّر علاقات تحالف نديّة مع القوى الإقليمية والدولية. يستعيدون تجربتهم الخاصة في التبعية المذلّة لشاه إيران، وخضوعهم للهيمنة الأميركية، ولا يمكنهم تصوّر نمط آخر من العلاقات سوى التبعية والخضوع.

مَن يملك أبسط معرفة ببنية النظام والدولة في سوريا، سيسخر، حتماً، من الأقوال السخيفة حول تبعية سورية للإيرانيين. العقلية السياسية السورية شديدة الحساسية إزاء السيادة واستقلالية اتخاذ القرار، حتى في أسوأ الأوقات. لقد قُيّض لي الاطلاع على سجالات سورية ــــ إيرانية، أدهشتني حقاً. ففي عزّ الحرب، يناقش السوريون حول النقطة والفاصلة! وإذا كانت دمشق تقارن نفسها بعاصمة ما، فهي تضع رأسها برأس موسكو. ولهذه النقطة بالذات، سيجد أي عربي حر الجواب على سؤال: لماذا يتوجب الوقوف مع الدولة السورية حتى النهاية؟ في الواقع، لا مثيل للاستقلال السوري في صفوف الأنظمة العربية جميعها، بلا استثناء.

حسن نصرالله؟ هل هذه طلّة تابع؟ في طهران، سينمو في داخلك سؤال: أيهما أكثر نفوذاً: طهران في الضاحية أم الضاحية في طهران؟ غير أن العبيد لا يمكنهم أن يتصوّروا وضعية وعقلية ووجدان الأحرار!

في اليمن، لا توجد، بالأساس، حدود مذهبية صمّاء. فالزيديون أقرب إلى التسنّن، والشوافع أقرب إلى التشيّع؛ آل سعود هم الذين أنفقوا الأموال والجهود للفصل بين الفريقين، من خلال نشر المذهب الوهّابي. وكذلك الإخوان المسلمون. هاتان القوّتان السوداوان عبثتا في النسيج الثقافي لليمن الطيب البسيط المفقَر، لإدامة السيطرة على بنيته وقراره ومقدراته؛ لقد ضجر الشعب اليمني من حال التبعية والفقر والفوضى والفساد، وثار؛ سرق الإخوان والخلايجة، ثورته، أربع سنوات، ثم استعادها بوساطة قوة حركة أنصار الله. هذه الحركة، رغم أنها انطلقت من مظلومية خاصة، فإن ما يُلفتُ النظر، في مسيرتها، أنها يمانية الرؤية والممارسة، ترنو إلى وطن سيد مزدهر، ولا تشتهي وضعاً طائفياً مميزاً؛ فمن يمانية الحركة، أي من خلال تجذّرها الوطني، أنها تنبذ الاستراتيجية المذهبية.

يؤكد نصر الله أن العلاقة بين الحوثيين وإيران، لم تنشأ إلا منذ وقت قصير جدا؛ ليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أكثر؛ لم يترك الحوثيون باباً عربياً إلا وطرقوه، وحتى أنهم، في وقت ما، لجأوا إلى الأردن، طلباً للوساطة؛ فجرى إهمال طلبهم! بينما استجابت عمّان، في المقابل، لمطالب الدعم الأمني للنظام البحريني. وما يحزّ بالنفس، أن المثقفين العرب ما زالوا يتجاهلون أكثر الثورات نقاء وسلمية ووطنية، أعني الثورة الديموقراطية في البحرين، وما زالوا يصمتون على الفظائع التي تُرتَكب بحق المناضلين المعتقلين في سجن جو؛ حياتهم مهددة جراء شروط الاعتقال الأسوأ في العالم، لكن الأفظع هو فصل المعتقلين على أساس مذهبي! أي حقد مجنون هذا على وحدة الحراك البحريني؟

حتى العام 2003، حين دعم حكّام الخليج، الاحتلال الأميركي لهذا البلد العظيم، لم أكن أتصوّر، جراء معرفتي المباشرة بالمجتمع العراقي، أن العراقيين سيحتربون مذهبياً؛ فالعراقي، مهما كان دينه أو مذهبه أو اتجاهه، يظل عراقيا في نمط تفكيره ووجدانه وحسه الثقافي وميوله ونظرته إلى الكون والحياة؛ فكم أنفقت المخابرات السعودية من الأموال، وكم حشدت من التكفيريين الإرهابيين، لنشر الوهابية الاجرامية في العراق، وتقسيم أعظم مقاومة عرفها العرب في تاريخهم، مذهبيا، وتحويل نيرانها من مجابهة المحتلّ إلى مجابهة الأخ وابن العم؟

ليس نهج الطائفية والإرهاب مجرد نتاج فرعي للثقافة الوهابية والتدخلات الاستخبارية السعودية، بل هما ــــ الطائفية والإرهاب ــــ عمودا الوجود السعودي؛ من دونهما لا بقاء للمملكة، ولا للمنظومة الخليجية كلها، منظومة الاحتكار العائلي للثروات الطبيعية والنيوليبرالية وتدوير البترودولار في اقتصاد السوق المعولَم. وهذا هو الأساس في عولمة الإرهاب. ولعل الولايات المتحدة، الآن، أن تكون مترددة بين اتجاهين، أولهما يؤيد الاستمرار في الاعتماد على الأدوات الإرهابية للفاشية الدينية، وثانيهما يميل إلى تفكيك المنظومة الخليجية، وإعادة تركيب الخليج على أسس ليبرالية في سياق التبعية نفسه. كلا الاتجاهين يدعم الحرب السعودية المجنونة على اليمن؛ فإذا آلت الحرب إلى هزيمة الثورة اليمنية وانتشار الفوضى والإرهاب في البلدين، سيكون «خيرا» لواشنطن، ينجم عنه احتلال شامل لمنابع النفط؛ وإذا انتصر اليمن، ستواتي الليبراليين، الفرصة الذهبية، لتفكيك السعودية، وإعادة بناء منظومة خليجية تابعة، ولكن معقلنة. في الحالتين، تكون الرياض دمرت العراق وسوريا ومنعت مصر من الاستقلالية، ثم انتحرت، بينما تواصل الجمهورية الإسلامية في إيران، تقدمها الاقتصادي والعلمي والدفاعي… فأيّكما أكثر إخلاصا للعروبة: حزب الله الذي يقاتل دفاعا عن قوة ومستقبل العرب في سوريا والعراق واليمن، أم أنتم الذين تحملون معاول الهدم الطائفي والمذهبي والإرهابي لديار العرب؟ وهل هنالك حُرقة على العروبة أعظم من صرخة نصرالله في وجوهكم: «يا تنابل»؟