في بيت كل مواطن لبناني، سواء أكان عازباً أم معيلاً لأسرة كثيرة العدد، يحل ضيف ثقيل يلازمه: ينام معه على مخدة واحدة. يجالسه الى المائدة في الوجبات الثلاث اذا وجدت!. يجلس في حضنه وهو يقود السيارة في الذهاب الى العمل والعودة منه، أو يتسكع معه مشياً في الأزقة اذا كان عاطلاً عن العمل. يرافقه أينما توجه للقيام بواجب في الأفراح والأتراح… بل ويتغلغل في وجدانه اذا لاحت في ذهنه بارقة أمل فيتدخل ليفسد بهجتها بالهموم والهواجس، وينغص عليه حياته على مدار الساعة. هذا الضيف الثقيل هو… القلق! وهذه الحالة النفسية المريرة هي ما يوحّد اللبنانيين اليوم، حكومةً وشعباً وطوائف وأحزاباً وسياسيين، ومثقفين وأميين، ومليونيرية وشرائح تعيش تحت خط الفقر المدقع! وفي أعماق كل هؤلاء، جماعات وأفراداً، تدوي صرخة شكسبيرية دفينة: أن نكون أو لا نكون!
***
إنها إذن حالة قلق جماعي على المصير مصدرها متغيرات كارثية في الداخل اللبناني متلازمة مع متغيرات كارثية في المنطقة العربية. وكان العالم في الماضي يقرأ مستقبل المنطقة من خلال ما يجري في لبنان، أما اليوم فإن لبنان العاجز والمترهل والمشلول، يحاول أن يقرأ مستقبله من خلال ما يجري في المنطقة! وكان لبنان منذ التأسيس دولة لها رئيس وبرلمان منتخب وحكومة فاعلة، ومع ذلك لم يكن خلقة مكتملة، وما كان يشوه هذا المخلوق وجود فساد له سلطان واحد. والتغيير الدرامي الذي طرأ هو أن لبنان تحوّل من ديموقراطية برلمانية تتداول السلطة، الى طبقة سياسية تتوارثها. وعمَّ الفساد بحيث أصبح لكل من المكونات اللبنانية مجموعة من السلاطين أيضاً، داخل الحكم وخارجه! وأصبح لبنان الرائد في الديموقراطية عربياً، عاجزاً عن انتخاب رئيس، أو عقد جلسة نيابية للتشريع، أو جلسة لمجلس الوزراء تتخذ فيها قرارات!
***
… وتغيّر العرب أيضاً! كانت فلسطين قضيتهم الأولى وأصبحت اليوم الثقل الذي يكسر ظهورهم. وكان التضامن العربي هو الكلمة السحرية التي تغسل القلوب، وأصبح بعضهم اليوم من أكلة القلوب الدامية المنتزعة من صدور بشر ذبحوا بحد سكين الارهاب. وكان بعض حكمائهم يدعو الى التسامح والتضامن وإسعاد الشعوب، ولكن تحول بعض حكامهم اليوم الى شعارات الجاهلية والأخذ بالثأر، والتآمر بالسياسة والحروب لإسقاط بعضهم بعضاً عن كراسيهم. وحتى دور الأشقاء الأعزاء في الخليج تغيّر. وبعد أن كان دورهم توظيف الجهد والتضحيات والمال في سبيل الوساطة واصلاح ذات البين، تحول اليوم الى المواجهة. وبينما الوساطة تفترض وجود لا غالب ولا مغلوب، حلت محلها اليوم قاعدة المواجهة التي تفرض وجود منتصر ومهزوم! ولم يخطر في البال هذا السؤال البديهي: ماذا لو كانت معادلة المواجهة متعذرة التحقيق بسبب توازنات اقليمية وتتقاطع مع مصالح دولية؟!
***
الخلاصة المفيدة هي التي تحمل العبرة الناجعة، ويمكن استنتاجها من قراءة سريعة لأوضاع أكثر الكوارث فظاعة في أقرب بلد الى لبنان، عنينا بها سوريا… وبعد حرب نالت أكبر عدد من الأوصاف في التاريخ، ماذا يحدث اليوم؟ يجري بحث في حل سياسي بدفع دولي في فترة زمنية محددة، مع مرحلة انتقالية ودستور جديد، ويتم بعدها العبور الى الدولة عبر انتخابات نيابية ورئاسية… فهل يحتاج الأمر الى ذكاء شديد لدى الزعماء اللبنانيين حتى يفهموا هذه الحقيقة البسيطة وأن يبدأوا الحلول من الآخر، دون المرور بمرحلة وسيطة تعقبها حرب طاحنة ومدمرة سبق للجميع أن ذاقوا أهوالها؟! وهل صار من الصعب علي أعرق ديموقراطية في الديار العربية ممارسة ديموقراطية بسيطة مع ما في لبنان من عبقريات داخل الوطن وخارجه؟!
———
عن مجلة الأمن العام عدد شهر أيار ٢٠١٦