لعبة الشطرنج جميلة وتدلّ على رياضة العقول وليس القبضات ولا الأقدام. واللاعب فيها يحتاج أو يتمتع بخاصية ذكاء مُركّب يشتمل على قدرة تحليل سريع وصواعقي ينتج ردّ فعل مناسباً بالمعنى المزدوج: الدفاعي والهجومي.
لكن العالم ليس لعبة شطرنج! ولذلك صحّ الظنّ ويصحّ دائماً، أن الناجح في اللعبة ليس بالضرورة ناجحاً في الحياة الواقعية بل في معظم الحالات، فاشل في العلاقات الاجتماعية، ومأزوم برتبة عبقري!
والعالم أيضاً ليس سجّادة مُطرّزة وموشّاة ومشغولة بصبر ورويّة وحرفية وإبداع.. وهذا ما احتاج صانع القرار الإيراني إلى بعض الوقت ليعرفه تماماً! وليتبيّن الفرق بين موجبات الفن التطريزي ومواهب الصانع، وبين أصول التعامل بين الدول وشروطه وموجباته ومتطلباته.. ومواهب صاحب السلطة وصانع القرار المتصل بالشأن العام!
واحدة من الأخطاء الشائعة والرائجة في هذه الأيام، هي الافتراض بأن خرائط الدول لا تزال تشبه رقعة الشطرنج.. وأن «الأذكى» بين اللاعبين هو القادر على تحريك الدول والمصائر البشرية مثلما يحرّك البيادق في وجه خصمه! وأن «التعادل» في بعض الحالات هو نجاح مزدوج، وتسليم رضائي بالنتيجة الوسطية. وبالعجز المتبادل عن تحقيق فوز حاسم.
في العالم الكولونيالي القديم كان يمكن للاعبين إثنين، أن يُحدّدا مصائر أمم وشعوب بشحطة قلم! وأن يتبادلا توزيع الحصص والنفوذ تماماً كما لو أنهما يتبادلان تحريك البيادق تحت سقف التسليم المُسبق بالتعادل! وهذا تعرفه شعوب الشرق العربي وغير العربي تماماً وربما أكثر من غيرها في مناطق قريبة أو بعيدة.. ولا تزال إلى الآن تدفع أثمان ذلك الصلف الاستعلائي ونزق أصحابه، والضرورات الحتمية لمصالحهم، في راهنيتها آنذاك، التجارية والتبشيرية والتوسعية.. إلخ.
لكن عالم اليوم «حاجة ثانية»! والفارق بينه وبين الأمس الاستعماري ليس بالزمن فقط وإنما بتراكمات هذا الزمن. وبتعقيدات التطوّر البشري واكتمال الخرائط الكيانية والانتمائية تبعاً لتطوّر العقل ونتاجاته الحداثية الآسرة والإعجازية.. ولذلك يمكن الزعم بخفر التخمين وليس اليقين، بأن إسقاط منهج قديم على واقع حديث هو بلف سياسي بغطاء إعلامي سطحي وضحل.. وعن قصد مسبق!
.. أي كان يُقال راهناً بهمّة إسرائيلية لافتة، أن قمّة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين ستُنتج تثبيتاً لخريطة جيوسياسية موجودة بالفعل وتتضمّن تبادلاً ومقايضة على مساحة تمتد من القرم وشرق أوكرانيا إلى سوريا وما بين بحرَي قزوين والأبيض المتوسط.. وأن بشار الأسد، رئيس سوريا السابق، «سيعود» ليحكم ويتحكّم! وسيستأنف وظيفته الأولى الخاصة بحماية ورعاية «الهدوء» الخلاّب في «جبهة» الجولان المحتل! وأن ذلك قضاء وقدر بشريين لا رادّ لهما!
خبلٌ لا يليق بأسوياء ولا بأي عاقل، في كل حال، التبخيس أو التشكيك بقدرة الكبار على التحكّم بمسارات ومصائر ضحايا التاريخ والجغرافيا في المدار المشرقي تحديداً، أكان هؤلاء فلسطينيين أو سوريين أو أكراداً أو عراقيين.. لكن الخبل الموازي وغير اللائق هو تبخيس الزمن الراهن وردّه إلى السوية الاستعمارية التي سادت في القرنين الماضيين! أو تهشيم التراكمات التي أنتجها الطغيان والاستبداد ودعّمتها على الجانب الآخر يقظة الضحية واكتمال وعيها، وقدرتها التلقائية على المعاندة والرفض واجتراح آليات تسفيه إشاعات «القضاء والقدر» البشريين!.. وإلاّ لكانت نجحت منذ زمن، محاولات تصفية «القضية الفلسطينية»! وأمكن لإيران وأتباعها وحواشيها إحكام القبض على اليمن.. أو العراق. أو تفطيس الثورة السورية بسرعة وتجنّب شرب الكأس الروسية المريرة والآيلة مرارتها إلى الازدياد.. أو لأمكن موسكو، قبل الجميع، معالجة «التمرّد» الأوكراني في مركزه في كييف وليس الاضطرار إلى ازعاجه في الشرق تحت ستار دعم «الأقلية الروسية» فيه.
.. ثم قبل ذلك كله: عن أي بشار الأسد تغرغر إسرائيل وتحكي؟! عن أي «جيش سوري»؟! وأي «سلطة مركزية»!! وأي عالم افتراضي هذا الذي تحاول إشاعته وتسويقه؟! وهل تصدّق فعلياً أن بقايا السلطة الأسدية ستقدر أن تفعل بعموم السوريين ما عجزت هي، إسرائيل، بكل إمكاناتها والدعم المُقدّم لها عن فعله بالفلسطينيين على مدى سبعة عقود.. وستبقى عاجزة؟!
قمة هلسنكي واحدة من الصفحات في كتاب النكبة السورية، وليست الخاتمة!