لا شكّ في أنّ قمة هلسنكي شكّلت منعطفاً تاريخياً للنزاع الدائر في الشرق الأوسط. فالقمّة الأميركية ـ الروسية دشّنت عملياً بداية مرحلة جديدة مبنيّة على قاعدة صلبة تحاكي مصالح واشنطن وموسكو. ويكفي ما قاله سفير روسيا في واشنطن أناتولي أنطونوف بأنّ سوريا كانت البندَ الرئيس في محادثات هلسنكي.
لكنّ الحماسة الروسية لنتائج قمّة ترامب وبوتين يشرحها وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر حين قال لـ»فايننشال تايمز» البريطانية إنّ جوهر الازمة الرئيسية للعلاقات الاميركية – الروسية هو انشغال واشنطن بمشاكلها الداخلية وترك الساحة الدولية مفتوحة للروس مثلما حصل في سوريا وأوكرانيا.
وبين كلام السفير الروسي في واشنطن وكلام الخبير الاميركي الابرز في السياسة الخارجية الاميركية، لا يمكن إلّا استنتاج نقطة اساسية وهي انّ سوريا والملفات المتفرّعة منها باتت خاضعة وبمقدار كبير للإدارة الروسية.
وعقب انتهاء قمّة هلسنكي عاد ترامب الى بلاده ليواجه عاصفة ضده طاولت حتى صفوف حزبه الجمهوري الذي يستعدّ للانتخابات النصفية بعد اشهر عدة، وهو مهدَّد بخسارتها. حتى إنّ مسؤولي الاستخبارات الذين عيّنهم كانت لهم مواقف علنية ضدّه.
لكنّ الأهم تلك الاشارات التي ظهرت سريعاً بعد انفضاض القمّة الاميركية ـ الروسية والتي طاولت الشرق الاوسط. فالكرملين ارسل سريعاً موفداً خاصاً الى طهران لوضع المسؤولين الايرانيين الكبار في اجواء التفاهمات التي حصلت، ومن ثمّ بدأت ملامح التسويات بالظهور: تأمين المنطقة الجنوبية في سوريا من دون وجود إيراني أو حليف، وتطبيق خطة لإعادة زهاء مليوني نازح سوري الى بلادهم، والشروع في تسويات إنهاء الحرب في سوريا.
صحيح انّ النقاط الثلاث تبدو ايجابية، لكن من الخطأ الكبير الرهان عليها.
فالقمّة أكدت سيطرة الجيش السوري من دون سواه على الجنوب السوري بكامله، وصولاً الى خطوط الفصل مع الالتزام باتّفاق العام 1974، ما يعني إمساك الجيش السوري بإشراف روسي مباشر وصارم بالجولان السوري كاملاً والبالغة مساحته 510 كلم2 وصولاً الى قوات «الاندوف» التابعة للامم المتحدة والبالغ عديدها زهاء 1100 ضابط وعنصر.
رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يريد اكثر من ذلك، وهو استبق القمّة برسالة من خلال الغارة قرب حلب وهي غارة اسرائيلية نادرة في العمق السوري، كان يريد أن يقول إنّ الوجود الإيراني في سوريا بكاملها يجب إزالته.
نتنياهو كان زار موسكو تسع مرات منذ العام 2015، وخلال لقاءاته ببوتين كان احد ابرز مطالبه إبعاد إيران عن إسرائيل من خلال الميدان السوري.
وتروي مصادر ديبلوماسية معنيّة انّ الرئيس الروسي وخلال لقائه الاخير برئيس الحكومة الاسرائيلية قبل ايام من قمّة هلسنكي قال إنّ الجيش الروسي لن يعترض على الغارات الاسرائيلية ضد مواقع ايرانية في المنطقة الجنوبية لسوريا شرط عدم استهداف الجيش السوري.
موسكو تبدو مرتاحة الى ما تعتبره إنجازاً بالحفاظ على علاقات جيدة مع كل من ايران واسرائيل. لكنّ الامورلا تبدو بهذه البساطة. صحيح انّ موسكو ستلتزم بإبعاد العناصر الايرانية ومجموعات «حزب الله» اللبناني من هذه المنطقة، لكنّ «حزب الله» السوري أصبح موجوداً، لا بل مترسّخاً في القرى والمناطق السورية القريبة من إسرائيل. ففي الجولان السوري يعيش زهاء 200,000 نسمة يتوزعون على 17 قرية وبلدة وكثيرون من هؤلاء باتوا يشكلون البنية التحتية لـ»حزب الله» السوري الذي سيبقى خارج أيّ اتفاقات كون اعضاؤه من السوريين وأبناء هذه المنطقة.
وبالنسبة الى اعادة النازحين، فلماذا تحديد أعدادهم بزهاء المليونين؟ وماذا سيحصل بالبقية في ظلّ وجود اكثر من سبعة ملايين نازح في البلدان المجاورة لسوريا؟ وكم سيكون نصيب لبنان؟
وكذلك فإنّ الاتفاقات السياسية لها خلفياتها العميقة وهو ما يجب التدقيق به.
فبعد قمّة هلسنكي أقرّ الكنيست الاسرائيلي يهودية الدولة الاسرائيلية. ألا يعني التزامن شيئاً، خصوصاً وانّ نتنياهو كان فرحاً بنتائج القمّة؟ ألا يُفهم من ذلك أنّ القمّة تطرّقت الى «صفقة العصر» وأنّ تغييرات كبرى ستصيب الخريطة الملاصقة لإسرائيل؟
لم يكن من باب المصادفة أن يطرح عضو الكنيست آفي ديختر والذي ينتمي الآن لحزب «الليكود»، للمرة الاولى «يهودية الدولة الاسرائيلية» في العام 2011 وهو العام الذي شهد انطلاق الحرب في سوريا، وليس من باب المصادفة بالتأكيد أن يقرّ الكنيست الإسرائيلي يهودية الدولة مع وضع خطط إنهاء الحرب في سوريا ووضع الترتيبات السياسية. وهو ما يعني أنه بات على الأردن أن يقلق فعلاً كونه صاحب الوجهة الحقيقية لرحيل عرب اسرائيل.
لكنّ الجميع يعرف جيداً انّ نقطة الارتكاز الفعلية في المنطقة لإحباط كل ما هو مطروح هي إيران. ولذلك ربما قال مستشار الامن القومي جون بولتن لشبكة «سي. إن. إن» إنّ ايران هي القضية الاستراتيجية وليس بقاء الاسد.
ففي وقت تصاعدت الحماوة العسكرية في غزة فور الانتهاء من قمّة هلسنكي أرسلت واشنطن الى حركة «حماس»، عبر الوسيط المصري، شرطين لإنهاض اقتصاد غزة وهما: وقف الهجمات على البلدات الإسرائيلية والاعتراف بإسرائيل، والثاني قطع العلاقات مع ايران.
في الاساس تضغط واشنطن على ايران اقتصادياً لشلّ قدرتها الخارجية وتعمل على تعزيز القلاقل الداخلية سبيلاً لإضعاف السلطة واشغالها. وكانت واشنطن قد اعلنت سابقاً رغبتها بإيصال الصادرات النفطية الإيرانية الى الصفر. لكنّ حاجة الصين الى مزيد من الطاقة لحماية نموّها الاقتصادي، اضافة الى الحرب التجارية الاميركية عليها، ستدفعاها الى توسيع نطاق شرائها للنفط الايراني بكميات اكبر، ما سيؤدّي الى مزيد من التقارب بين البلدين. فواشنطن ترى في النموّ الاقتصادي للصين تهديداً لأمنها.
كما انّ الحرب التجارية التي اعلنتها واشنطن ضد اوروبا ستكون لمصلحة ايران لجهة الحدّ من تأثير العقوبات الاميركية وقدرتها، خصوصاً إذا ما استمرت لفترة طويلة.
والاهم انّ التجارب تؤكد أنّ ايران وعندما كانت تواجه ضغوطاً حول النووي غالباً ما كانت تردّ بالاندفاع اكثر الى الامام. وليست المرة الاولى التي تهدّد فيها ايران بإغلاق مضيق هرمز. ففي العام 2011 هدّدت بذلك رداً على هجمات الكترونية على بنيتها التحتية النووية ووزارة النفط والعقوبات التي فُرضت على النفط والبنك المركزي الايراني.
كذلك بعد اغتيال خمسة علماء نوويّين إيرانيين، ردّت طهران في العام 2012 باستهداف ديبلوماسيين اسرائيليين في اربع دول آسيوية.
وفي العام 2011 شنّت هجمات الكترونية على مؤسسات مصرفية ومالية اميركية ولكن من دون أن تذهب بعيداً.
كما أنها ردّت على تحليق طائرات الاستطلاع الاميركية باستهدافها والاهم إسقاط إحداها من دون أن تتضرّر وكَشف أسرارها. ووفق كل ذلك لا بد من الاستنتاج أنّ ايران ستردّ الآن بالاندفاع اكثر الى الامام ولكن بنحو مدروس ولتصيب نقاط الضعف الاميركية. لذلك فهي تتقارب مع تركيا الساعية الى تكريس مناطق نفوذ لها في الشمال السوري ولإخضاع إدلب لسيطرتها. وهي تحضِّر للمرحلة المقبلة والتي لا تبدو أنها ستكون مرحلة هادئة بخلاف الصورة الصادرة من هلسنكي.