Site icon IMLebanon

كيسنجر ولبنان: استراتيجيّة الخطوط الحمر

 

 

توفّي هنري كيسنجر عن عمر ناهز المئة عام. انتهت حياة رجل النصف الثاني من القرن العشرين على مستوى العالم ومن دون منازع. فلقد كانت له اليد الطولى في رسم الأحداث والتحوّلات على مستوى العالم أجمع. إنّه هنري كيسنجر، من عائلة يهوديّة ألمانية هاجرت من ألمانيا إلى الولايات المتحدة عشية بدء عملية إبادة اليهود في ألمانيا على يد النازيّة عام 1938 قبل عملية الإبادة بثلاثة أشهر فقط والتي عرفت «بليلة البلّور». نزلت العائلة بمدينة نيويورك حيث التحق هنري بمدرسة جورج واشنطن، حصل على الجنسية الأميركية وعمل في المخابرات. ثم التحق بجامعة هارفرد وقدم أطروحة حول معنى التاريخ لدى اشبنغلر توينب وكانت، وحصل على الدكتوراه متابعاً معنى التاريخ في عالم مرمّم 1822-1828 وبناء السلام.

 

وبعدها عمل أستاذاً في جامعة هارفرد 1955-1971ـ ثم مساعداً للرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي ومن ثم وزيراً لخارجية أميركا 1973-1977. إنطلاقاً من شخصيّته وذكائه ومن موقعه السياسي لمع اسمه في السياسة العالمية إذ حقق انجازات سياسية نشير إلى أربعة منها فقط:

 

• معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي 1972

 

• سياسة الإنفتاح على الصين 1972

 

• الإنسحاب الأميركي من فيتنام 1975

 

• فصل القوات في الشرق الأوسط بعد حرب اكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية.

 

وحاز على جائزة نوبل للسلام عام 1973.

 

كيسنجر ولبنان

 

1 – يشكّل لبنان جزءاً من منطقة الشرق الأوسط التي هي في قلب اهتمامات كيسنجر لسببين:

 

الأول: لأنّها نقطة مركزية في الصراع بين الغرب والشرق.

 

الثاني: لأنّها الحيّز الجغرافي الذي يقيم فيه شعب كيسنجر (الشعب اليهودي) في دولة اسرائيل. ولذا قام كيسنجر بأكثر من زيارة لبلاد أجداده وكان من تلامذته فيها شخصيات قيادية مثل: موشه دايان وشمعون بيريز واسحق رابين وايغال ألون. فقد كان كيسنجر يشعر دائماً أنّ عليه واجباً أخلاقياً وسياسياً تجاه الشعب اليهودي بشكل عام وتجاه دولة اسرائيل بشكل خاص، كونه المستشار المسموع الكلمة في واشنطن وتل أبيب على السواء.

 

2 – بعد أحداث لبنان في سبعينات وثمانينات القرن الماضي والدور المركزي الذي لعبته اميركا فيها عبر هنري كيسنجر، قمت شخصياً بوضع واصدار كتاب بعنوان «لبنان في استراتيجية كيسنجر» العام 1991 وصدرت طبعته الثالثة العام 2008. وهو كتاب في ثلاثماية صفحة يعرض لفكر كيسنجر السياسي والاستراتيجي بشكل عام وللقضية اللبنانية بشكل خاص. وعلى غلافه الخطوط الحمر الكيسنجرية مع مواجهتها بخطوط خضر هي خطوط ارادة اللبنانيين الأحرار والسياديين وفي مقدمهم بشير الجميّل.

 

3 – باختصار كليّ، ليس من مصلحة دولة صغيرة أن تقوم إلى جوارها دوَل قوية كما يقول فريدريتش راتزل ابو الجيوبوليتيك المعاصر. وهذا وضع لبنان مع سوريا واسرائيل. فالسوريون كانوا يعتبرون أمن سوريا من أمن لبنان. والاسرائيليون يعتبرون أنّ أمن اسرائيل من أمن لبنان… في هذا المجال يشار دائماً إلى خطاب لمناحيم بيغن في الكنيست الاسرائيلي حين قال: «إنّ من يسيطر على جبل صنين وسماء لبنان سيسيطر على لبنان كله حتى الحدود اللبنانية الاسرائيلية. وعندئذٍ ستواجه اسرائيل خطر الوجود»، يضاف اليه كلام لأرييل شارون وفيه: «إن أمننا وثيق الصلة بأمن لبنان».

 

4 – كيسنجر: «إنّ مصلحة أميركا وأمن اسرائيل وسوريا من لا أمن لبنان». عبقرية كيسنجر كصانع للتاريخ، وليس كـ»مدونية» فقط، هي في مقدرته على الجمع بين حلم سوريا التاريخي بالنسبة للبنان من جهة ومطامع اسرائيل في لبنان من زمن بن غوريون من جهة ثانية ومصالح أميركا في منطقة الشرق الأوسط من جهة ثالثة، بتحويل لبنان «إلى سوق قطع سياسي لتسويق المشاريع وتبادلها»، كما يقول كيسنجر. وهكذا أصبحت الاستراتيجيتان السورية والاسرائيلية جزءاً من الاستراتيجية الأميركية (الكيسنجرية) في المنطقة. فمنذ العام 1976 قامت خطة كيسنجر على وضع لبنان تحت الكوندومينيوم (اي حكم دولة ثالثة) السوري الاسرائيلي برعاية أميركية. ولقد بذل الأميركيون برعاية كيسنجر مجهودات كبرى لاقناع الزعماء الاسرائيليين بالقبول بدخول الجيش السوري إلى لبنان. اختصر موريس دريبر، مساعد كيسنجر الوضع بالقول: «نحن دعونا السوريين للدخول إلى لبنان، ولقد شاركت في صنع هذا القرار».

 

5 – عرفت الاتفاقية التي دخل السوريون بموجبها إلى لبنان بموافقة اسرائيلية ورعاية أميركية «بنظام الخطوط الحمر» (Red lines system). وهي تحدد لكل من سوريا واسرائيل الحدود القصوى لتحرّكها العسكري فوق الخريطة اللبنانية، وحجم القوة العسكرية المتدخّلة، ونظام الأسلحة المستعملة، وانتشارها الجغرافي على الخريطة اللبنانية. وقد تمت صياغة هذه الاتفاقية برعاية وتخطيط هنري كيسنجر وقد قامت على قاعدة التوازن التي اشتهر بها كيسنجر وتتضمن ثلاثة أمور أساسية:

 

أولها: لا تتجاوز القوات السورية خطاً أبعد من نهر الزهراني وقرية كفرمشكي، وهو خط يبعد 40 كيلومتراً عن الحدود الاسرائيلية.

 

ثانيها: تمنح سوريا سلاح الجو الاسرائيلي حرية الحركة في الأجواء اللبنانية ولا تُدخل إلى لبنان صواريخ أرض- جو.

 

ثالثها: تمتنع سوريا عن توجيه ضربات جوية إلى أهداف أرضية مسيحية في لبنان.

 

الخطّ الأحمر

 

… أجل إنّ الخط الشهير الذي يفصل بين النفوذين السوري والاسرائيلي على الخريطة اللبنانية هو الخط الأحمر الذي يبعد مسافة أربعين كيلومتراً داخل حدود لبنان بالنسبة للحدود الاسرائيلية، وهو خط يبدأ قرب صيدا على الساحل وعبر مدينة جزين ليصل إلى بلدة كفرمشكي في البقاع، وهو خط مستقيم يشمل ما يقارب 2000 كيلومتر مربع من الأراضي اللبنانية. وليس من قبيل الصدف أن تحدد اسرائيل مسافة أربعين كيلومتراً كمدى لعملية سلامة الجليل عام 1982، حتى وإن تخطى ارييل شارون هذه المسافة بعد ذلك ووصل إلى بيروت ما يُعدّ انتهاكاً للخطوط الحمر بالمقابل، فإنّ سوريا انتهكت هذا الخط مرتين:

 

الأولى: عندما استعملت الطيران ضد «القوات اللبنانية» في حرب زحلة وقد قام الطيران الاسرائيلي باسقاطها.

 

والثانية: عندمات قامت بضرب القصر الجمهوري في بعبدا العام 1990 لازاحة العماد ميشال عون عن السلطة وقد تمّ ذلك بموافقة أميركية – إسرائيلية.

 

باختصار، إنّ نظام الخطوط الحمر لهنري كيسنجر، كان من الأهميّة والفاعلية لدى الادارة الأميركية، بحيث أسقط أهداف مهمة المبعوث الأميركي إلى المنطقة فيليب حبيب الذي عمل على اخراج كل من سوريا واسرائيل من لبنان. لكن الكيسنجريين في الادارة الأميركية كانوا الأقوى بحيث فشّلوا مسعاه ومن النتائج المأسوية لهذا المسعى استشهاد الرئيس بشير الجميل الذي كان البديل اللبناني الوحيد للوجودين السوري والاسرائيلي على صدر لبنان!