تشيح بنظرها تجاه فلسطين المحتلة، ترفع شارتَيْ نصر، وقد صبغت وجهها بعلم لبنان، صورة الطفلة وإلى جانبها «الذكرى السنوية العاشرة للانتصار، نصر من الله»، وفي الجهة المقابلة، «زمن الانتصارات»، من أبرز لوحات المهرجان. النصر حاضر في كل العبارات. هنا تمّ وضع الحجر الأساس له.
وحده «الشاب الأصفر» كاد يخطف الأنظار عن «الطفلة الحمراء». يهرع المصوّرون إلى زاوية في باحة مجمع موسى عباس، حيث أقيم مهرجان الذكرى العاشرة لانتصار تموز. يتحلّقون حول الشاب العشريني، وقد لوّن وجهه بلون راية «حزب الله». «إنها اللقطة» يصرخ أحد المصوّرين قبل أن تتزاحم زخات العدسات على اصابة «الهدف».. «انظر إلى هنا» يقول مصوّر، فيردّ آخر «لا إلى هنا». تحوّل الشاب إلى «سوبر ستار» المهرجان. انتقلت عدوى التصوير إلى الجميع. فتاة في القسم المخصص للنساء أرادت التقاط «سلفي» معه، فكان لها ما أرادت. ظل الشاب يتنقل بين الحشود إلى أن جاء أحد المنظمين وأجلسه إلى جانبه، ليواصل الشاب بعدها التقاط «السلفي» لنفسه.. «على القاعد»..
وجه أصفر، «تي شيرت» صفراء، حذاء أصفر، حتى هاتفه الخلوي طبع عليه راية «حزب الله». حسن محمد علي هاشم سيتذكّره معظم من شاركوا في احتفال 2016. اقتربنا من حسن، فتدخل عنصر من «التنظيم» مستفسراً، قبل أن يعطي الإذن قائلاً: «السفير.. معليش»، لكنه همس في أذن الشاب كلمات ترجمها حسن بالتعبير عن حبه لـ «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله.
يوم السبت الماضي، كل الدروب تؤدي إلى بنت جبيل. المدينة التي صار نصرها حكاية. هناك، عند تخومها وتلالها، سطّر المقاومون ملاحم بطولية حفرت في ذاكرة «الإسرائيلي» هزيمة لن يقوى على نسيانها. كان نصيب البلدة الانتقام بالتدمير، فقط لأنها قرّرت أن تحمل وطنها الكبير على أكتافها. أن تحمي العلم والنشيد ولا تركع.
لم تمنع شمس آب الحارقة الآلاف من المجيء للاحتفال بالنصر. كل الطرق إلى المدينة، من صف الهوا ومارون وعيناتا وعيترون مزيّنة برايات «حزب الله» الصفراء والأعلام اللبنانية. حواجز محبة. أطفال من كشافة الإمام المهدي يوزعون الحلوى على المارة. «ميكي ماوس» الأميركي كان موجوداً في إحدى البلدات يشارك بفرحة النصر. في بلدة حولا، زرعت أعلام لـ «الحزب القومي» في وسط الطريق. هذا الحزب يعتبر نفسه شريكاً في انتصارات المقاومة كلها.
لم تعد مهرجانات نصر المقاومة تُقاس بالأعداد. «زوم إن» أو «زوم أوت»، لا يعنيان شيئاً بالنسبة للمشاركين، ولا لمنظمي الاحتفال.
رجال ونساء وشيوخ وأطفال بدا حضورهم لافتاً للانتباه. يرفع علي (5 سنوات) علم «حزب الله». يرتدي قبعة صفراء ويحاول أن يداري عينيه من الشمس، لكن ذلك لم يمنعه من المجيء برفقة والده من بلدة عدشيت في قضاء النبطية، لأنه يحب «حزب الله ونصرالله»، نسأله لماذا، فيجيب مكتفياً بعبارة «أحبهم». هو حب لا تفسير له عند معظم الأطفال المحتشدين.
وعلى منوال الصغار، يأتي الكبار، برغم الحرّ وضيق الأحوال، حياة معظم الناس صعبة. لكأن الدماء التي لها حكاية كل يوم، باتت ممتزجة بمرارة شتلة التبغ. لكن ما يعلمه هؤلاء جيداً أن التاريخ لا يُكتب بتوزيع الشاي على جنود العدو والترويج لثقافة الهزيمة وذرف الدموع انكساراً، بل بتضحيات أبطال أمثال الشهيد خالد بزي ورفاقه.
«هذه أول مرة في حياتي أشارك في المهرجان.. دخيل إجرك يا سيد». بعد أربعين سنة في السعودية «تركتها نهائياً»، يقول رجل من آل بلوط «حصلت على إذن بالخروج والعودة، لكنني لن أعود، أريد أن أسمع السيد يشتمهم بأذني، كان الأفضل لي أن أغادر بكرامتي ولا أنتظر أن يقوموا هم بطردي».
السيد نصرالله بالنسبة للمشاركين هو الأيقونة. كل شيء يبدأ وينتهي عنده، «نموت إذا تعرّضوا للسيد»، يقول شاب. تدمع عينه ثم يستطرد: «الله يطوّل بعمرو».
المنظمون فريقان. الأول (تشريفات) يتولى استقبال الضيوف، والثاني، يقوم بضبط الإيقاع داخل الباحة وتوزيع القبعات الصفر والماء على المشاركين.
قبل انطلاق المهرجان رسمياً، أُغمي على شاب بسبب درجات الحرارة المرتفعة وقد أجرى له فريق «الهيئة الصحية الإسلامية» الإسعافات اللازمة.
يظل الحشد هادئاً في الباحة إلى أن يتم ذكر اسم نصرالله. بمجرد عرض مقتطفات من خطابات «السيد» حتى ترتفع الصرخات والصيحات، ويقف الجميع. يحاول أحد المنظمين إجلاسهم فيفشل.
حضرت كل الرايات، لكن الصفراء هي الغالبة وقليلة الأعلام اللبنانية نسبياً. أما عروس الرايات فكانت راية فلسطين.
طغى الهاجس الأمني على الاحتفال. قطعت كل الطرق التي تؤدي إلى باحة المجمع بالسيارات والسواتر الحديدية. على المداخل، انتشار واضح لأمن «حزب الله» يدلّ إليهم الزي الأسود الموحّد. في سوق المدينة، انتشر عناصر من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي وشرطة البلدية.
المداخل المؤدية إلى بنت جبيل تحكّمت بها حواجز للجيش والدرك. وكان اللافت للاهتمام مراقبة الحشود بطائرة صغيرة تحمل كاميرا يوضح أحد المنظمين أنها لالتقاط الصور فقط، أما الظاهرة الأخرى، فتمثّلت في الانتشار المسلح لعناصر «حزب الله» على أسطح المنازل المحيطة بالباحة «وهؤلاء لا يعرف أحد عنهم شيئاً أو عن طبيعة عملهم أو مَن المسؤول عنهم حتى السيد حسن نصرالله نفسه»، يقول أحد المسؤولين عن التنظيم.
كانت الأناشيد الحماسية تعلو وتخفت. ومعها يرتفع ايقاع حركة الجمهور أو ينخفض. إلى أن علا صوت السيد نصرالله بعبارات يتحدّث فيها عن استهداف مطار «بن غوريون» في فلسطين المحتلة مقابل مطار «الشهيد رفيق الحريري في بيروت»، واستهداف تل أبيب مقابل الضاحية. هنا بدأ الجميع بالتهليل. لم يُسكتهم سوى الإعلان عن بدء المهرجان.
بعد النشيد اللبناني، ونشيد «حزب الله»، اعتلى المنشد علي العطار المسرح ليحرّك الحشود الذين رفعوا قبضاتهم أكثر من مرة.
أُطلقت بالونات النصر، صفراء وحمراء وخضراء، وقد حملها الهواء جنوباً باتجاه فلسطين. يقول المقاوم أحمد: «إنها هدية لتذكير جنود الاحتلال بهزيمتهم». يضيف: «فليتسلّوا بها عندما تحطّ عندهم».
يتجادل ثلاثة رجال وصلوا متأخرين، حول المكان الذي سيجلسون فيه. «من هنا لا نستطيع رؤية السيد عبر الشاشة» يقول أحدهم. يردّ آخر «هناك شاشة كبيرة ويمكننا الرؤية». يحسم جدالهم الإعلان عن بدء كلام السيد فيجلسون حيث هم بلا أدنى حراك أو أمر. يصرخ الجميع: «أبو هادي، أبو هادي، لبيك يا نصرالله». يفتتح «السيد» كلامه بكلمة «ممنون» كعادته ليهدأ الجميع ويبدأ موسم الإصغاء.
خطاب نصرالله
كان البارز في خطاب نصرالله قوله «إذا كان هناك جهات معينة لديها أسئلة حول الأزمة اللبنانية، خصوصاً رئاسة الحكومة، فنحن حاضرون للإجابة عن أي تفسيرات وسنتعاطى بإيجابية مع أي طرح»، مؤكداً في الوقت نفسه على «أن مرشحنا لرئاسة الجمهورية هو العماد ميشال عون، وأن مرشحنا لرئاسة المجلس النيابي الوحيد والأكيد والقديم الجديد هو دولة الأخ الرئيس نبيه بري».
وأكد أهمية الحوار بين اللبنانيين للتواصل بين الجميع وللبحث عن الحلول»، مطالباً الحكومة «اللبنانية بتحمّل مسؤولياتها في مختلف المجالات»، ودعا للاستفادة من الثروات اللبنانية لا سيما استخراج النفط والغاز وتسييله لمصلحة الشعب اللبناني»، مشدداً على أن لبنان «لديه القدرة على حماية غازه ونفطه.
وبعد أن عدّد أسباب هزيمة العدو الإسرائيلي وفشله في تحقيق أهدافه وفي ترميم قدراته بعد عقد من الزمن، أكد نصرالله أن من نتائج حرب تموز 2006 هي اهتزاز ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش الصهيوني وبالقيادة السياسية.. واهتزاز ثقة القيادة السياسية بالجيش والعكس صحيح، لافتاً الانتباه إلى أن «هذا أخطر شيء في الكيان الغاصب».
وإذ أكد نصرالله أن «كل ما قالته المقاومة في لبنان يصدّقه الإسرائيلي. لا يوجد نقطة في الكيان الغاصب بعيدة عن صواريخنا»، لفت الانتباه إلى أن «الإسرائيلي اليوم خائف من اجتياح الجليل بعدما كانت بلداتنا تعيش على الخوف. وإسرائيل تعلم أن المقاومة في لبنان تزداد قوة وعزيمة وإرادة. وهذا ما يردعها».
وأشار نصرالله إلى مقولة رئيس حكومة العدو بنيامين نتياهو «نحن نعلم أن الحرب القادمة إذا ما فرضت علينا ستكون قاسية، ومع ذلك سنخرج ويدنا هي العليا، لأنه لن يكون لنا موعد ثانٍ»، متوجّهاً إليه بالقول: «أنتم مجتمع أوهن من بيت العنكبوت، مجتمع تعب من القتال والدفاع عن نفسه. المعركة كانت على الوعي وانتصار تموز من بنت جبيل تكفّل بكيّ الوعي الإسرائيلي»، وأشار إلى تجدّد السؤال الوجودي، خصوصاً أن حرب تموز أصابت إسرائيل في روحها.
وحول دور الحزب في سوريا، شدد نصرالله على أن الحزب «هو رأس الحربة في محور المقاومة، وهذا ما يفسّر محاربته من خلال الأدوات الإرهابية، فالإدارة الأميركية صنعت الجماعات التكفيرية الواسعة التي تدرجت من القاعدة إلى داعش إلى النصرة من أجل بث الفوضى الموجودة في منطقتنا، واعتمدت سياسة الحرب بالوكالة عبر الدعم السعودي وتقديم التسهيلات لهم وفتح حدود الدول في وجههم»، مؤكداً أن «داعش والنصرة ورقة في الانتخابات الأميركية، اذ تم استخدامها من قبل الأميركيين واليوم حان الوقت للتخلص منها». وأشار إلى أن واشنطن جاءت بهذه الحركات ودعمتها لتحقيق أهدافها ولاحقاً تعمل على التخلص منها.
وتوجه نصرالله إلى الجماعات الإرهابية في المنطقة، سوريا والعراق واليمن بالقول إنه يتم استخدامهم لقتل أبناء المنطقة وتدمير دولها ومحور المقاومة خدمة لإسرائيل وأميركا، داعياً «كل من لا يزال يحمل السلاح من كل الجماعات الإرهابية لقتل أخيه في البلد والدين الى التنبه أن الحصاد الاميركي حان، اليوم لداعش والدور آتٍ على الجميع».
وإذ أكد «ضرورة وقف الفتنة وبذل كل الجهود لذلك»، قال: «سنكون حيث يجب أن نكون في حلب وفي غيرها من أجل فلسطين وأسراها الذين يناضلون بالأمعاء الخاوية من أجل المهجّرين والمحاصرين، من اجل لبنان وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من الدول». وتابع: «دخلنا زمن الانتصارات وولّى زمن الهزائم. المشاريع الجديدة تتداعى وتتراجع في سوريا والعراق وكل شيء كان بإمكانهم أن يفعلوه فعلوه وهذه مشاريعهم تتراجع ومستقبل لبنان وسوريا وفلسطين والأمة هو المقاومة».
ولم يغفل نصرالله الإشارة إلى قضية الإمام السيد موسى الصدر في ذكرى تغييبه العاشرة، فتوجّه بالتحية «إلى هذا الإمام الذي يبقى إمام المقاومة وإلى رفيقيه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين»، كما توجّه بالتحية إلى «الراحل السيد محمد حسين فضل الله ولدوره الأبوي خلال حرب تموز إذ شبّه المجاهدين خلال الحرب بالبدريين أي بصحابة رسول الله».
خمس دقائق.. تاريخية
شارك مئات من الشبان في تنظيم الاحتفال. لكن أحدا منهم لم يستطع أن يقدم معلومة واحدة حول التنظيم. المسؤول هو الذي يعطي الإذن أو يحجبه. ينده أحد المنظمين الذي حاول المساعدة عبر جهازه اللاسلكي: حج فلان، حج فلان، يحيلنا فلان على فلان آخر، إلى أن ينتهي بنا المطاف عند أحد المشايخ المعمّمين. يتطلب الحديث إليه العبور نحو المنصة الرئيسية، وهذا أمر ممنوع بتعليمات من رجال الأمن.. طلبوا الانتظار لمدة خمس دقائق وامتدت الدقائق الخمس، حتى نهاية الاحتفال!
«سلفي».. و«أمن»
استمر تقاطر المشاركين إلى باحة المهرجان حتى بعدما بدأ السيد حسن نصرالله كلامه. على الطريق إلى الباحة، ثلاث نساء يدخنَّ «النرجيلة» عند إحدى حوافي مقبرة البلدة. وفتاتان تتوسطان الشارع لالتقاط «سلفي» وقد لفّت إحداهما جسدها براية «حزب الله». أحد الأطفال المشاركين يشرح سبب مشاركته قائلا: «البوسطة جابتنا بلاش». وإلى جانب حائط باحة المجمع، وقف ثلاثة شبان يلتقطون الصور بكاميرا خاصة. يتقدم منهما شاب من أمن «حزب الله» ويطلب منهما فتح الكاميرا لرؤية ما التقطوه من صور. ثوان وتعود الكاميرا إلى اصحابها مع «تعليمات واضحة».