في خضم الأزمات التي يمرّ بها لبنان والحروب التي تعصف بالمنطقة، خرقت الأجواء قمة إستثنائية في الشكل والمضمون ذهبت أبعد من معالجة مواضيع الساعة لتصل إلى أهمية الحفاظ على الجذور. شكّل المقر البطريركي للسريان الأرثوذكس في العطشانة – بكفيا، وبدعوة من بطريرك السريان الأرثوذكس اغناطيوس أفرام الثاني ملتقى للقاء هو الأوّل لبطاركة الكنائس ذات التراث السرياني، في لحظة تاريخية يمرّ بها لبنان والمنطقة.
ليست القضية كما كانت منذ سنوات، مشاركة سياسية في السلطة من هنا أو تحصيل مركز للمسيحيين من هناك، بل باتت أبعد بكثير بالنسبة لمن يحملون الجذور السريانية، فالقضية أصبحت «تهديد الوجود السرياني».
وفي تدقيق بالمفردات، فإنّ ما تنطق به شعوب هذه المنطقة هو مزيج من اللغة السريانية والعربية، لكن في الحقيقة إنّ الحضارة السريانية تندثر، فعلى سبيل المثال، باتت البطريركية السريانية المارونية مُعرّبة بشكل كبير، وباتت اللغة السريانية شبه غائبة عن قداديس الموارنة في لبنان وبلاد الإنتشار، والأخطر من هذا كله حسب بعض الكهنة والمطارنة، إنّ المدارس والجامعات المارونية لم تعد تُدرّس السريانية وبات الخطر كبيراً على صمود هذه اللغة خصوصاً بعد رحيل الجيل الأكبر الذي كان يتكلّم السريانية فيما تفتقد الكنيسة المارونية لكهنة ورهبان يتحدّثون بهذه اللغة.
وإذا كانت البطريركية المارونية تمثّل أكبر البطريركيات السريانية، إلا أنّ الحمل يقع على عاتق كلّ البطاركة وهؤلاء هم الذين إجتمعوا في العطشانة. إضافةً إلى البطريرك افرام الثاني، حضر اللقاء أمس الاول كلّ من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، بطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك كنيسة المشرق الآشوريّة في العراق والعالم آوا الثالث رويل، وبطريرك الكلدان في العراق والعالم الكاردينال لويس روفائيل ساكو والذي شارك في الجلسة الافتتاحية عبر الانترنت.
ويحمل كل بطريرك همّ رعيته. وإذا كان بطاركة الآشوريين والكلدان ما زالوا يعيشون تحت التأثير النفسي لانحلال الدولة العراقية وانتشار «داعش»، فان البطريرك الراعي يحمل همّ القضية اللبنانية وخلاف المسيحيين بين بعضهم البعض، في حين أن بطاركة السريان يتابعون شؤون رعاياهم خصوصاً في سوريا التي لم تهدأ الحرب فيها بعد.
أما البند الأهم الذي حضر خلال اللقاء، فهو كيفية الحفاظ على التراث السرياني المتوارث، فالقديسون المشرقيون وعلى رأسهم الموارنة كانوا يتكلمون السريانية، وبالتالي إنّ الأجيال الصاعدة لا تعرف شيئاً عن هذا التراث واللغة والحضارة، لذلك فإنّ هذا الأمر سيشكّل مادة عمل للبطريركيات في المرحلة المقبلة.
ومن جهة ثانية، فان الإجتماع أطلق ما يشبه نفير صراع البقاء والوجود، وهذا الأمر لا يقتصر على الوجود البيولوجي أو الحضور السياسي فقط، بل على الهوية والدور ونشر الحضارة. من هنا، الأمثال التي أُعطيت كثيرة، فعلى سبيل المثال استطاع الأرمن المنتشرون في لبنان وسوريا والعراق بعد المجازر البشعة التي تعرضوا لها، الحفاظ على لغتهم ودورهم وهويتهم، ومثلهم فعل الأكراد الذين يحاولون بناء دولة لهم، وكذلك يفعل اليهود الذين احتلوا أرض فلسطين على اعتبار انها أرض «الميعاد»، وكذلك توجد مجموعات وأعراق مشرقية حافظت على هويتها من دون أن تشكل خطراً على الدول حيث تتواجد.
ومن جهة اخرى، ناقش البطاركة نزيف الهجرة المستمرّ الذي يؤدّي إلى إضعاف الحضور المسيحي في الشرق، وهذه الهجرة في ارتفاع مستمرّ، وسببها ليس فقط مرتبطاً بعوامل داخلية، بل بالحروب والأزمات التي تمرّ بها المنطقة، وإذا كان البطاركة شدّدوا على ضرورة وقف الحروب، إلا أنّ الأساس كان تقوية الحضور المسيحي والعمل على الإيديولوجيا باعتبار أنّ السرياني والمسيحي هو ابن هذه الأرض ولا يستطيع أحد تهجيره منها مهما إشتدت الحروب والأزمات.
إفتتح المكوّن المسيحي الهجرة من الشرق حتى باتت أرض المسيح شبه خالية من الوجود المسيحي الفاعل، من هنا فإنّ تشكيل لوبي من المنتشرين يشكّل مدخلاً لتدعيم صمود الاهالي في الشرق وللحفاظ على التراث السرياني الذي يندثر، في حين أنّ الحمل الأثقل يقع على عاتق البطريركية المارونية صاحبة النفوذ الاكبر والإنتشار الأوسع لكي تحافظ على التراث السرياني وذلك عبر مدارسها وجامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها.
وتبقى العبرة في استكمال إجتماع العطشانة لا البكاء لاحقاً على الأطلال، وتمّ تأليف لجنة لمتابعة المقرّرات، في حين أنّ مثل هكذا إجتماع سيعقد بشكل سنوي على مستوى البطاركة، ومن المقرّر أن يُعقد اللقاء الثاني في العراق العام المقبل لتقييم ما تمّ تنفيذه في الإجتماع الأول ولوضع خطة طويلة الأمد.