Site icon IMLebanon

مئة عام ولبنان ليس بخير

 

بيروت التراث والقصور وأشجار الزنزلخت

 

أن يتهاوى التاريخ و”يتشلّع” التراث ويُصبح الدم بِرَكاً والركام أرتالاً وأن تصبح بيروت منكوبة وما تبقى من أحياء أرواحاً ميتة، وأن يتبدّد كل ما هو جميل في شوارع غورو وسبيرز وحسين بيهم وعبد القادر وسرسق وجرجي زيدان وزقاق البلاط… وأن نودّع الكثير الكثير من مشاهد التراث، التي تزيد عمراً عن المئة، في احتفالية مئوية لبنان… يُسقطنا كل ذلك في الغضب ويجعلنا نسارع الى نبش التاريخ وتسجيل “اللحظات”، علّنا نُمسك بالتراث ونمنعه من الزوال مع زوال قصص رائعة من قصص تاريخ شوارع بيروت وأزقتها. في مئوية لبنان الكبير بحثنا عن مبان بعمر المئة تنزف وهي تتصدى لمكر اللصوص الذين بعدما يئسوا من قتل الأمل نحروا التراث.

 

لم أكتشف قيمة بيت جدي أبو نقولا، خلف مبنى بيت تويني في شارع الدفوني في منطقة الأشرفية، إلا بعدما ترك أهل البيت “تاريخهم” لقاء تعويض مئة ألف دولار، لأن المالكة قررت أن تبيع. رزق الله على ذاك البيت وذاك الزمان. كانت الشبابيك الخشبية عالية والقناطر تفصل بين دارين والبلاط أشبه بلوحة رسمها فنان، والسقف عال والواجهات الزجاجية في كل مكان والقرميد، الذي كان المطر يتسرب منه، و”ستي” تنقل في عز كوانين “السطل” من مكان الى آخر… كان ذاك القرميد عتيقاً لكنه جميل… كان عمر البيت مئة عام وأكثر. كان تراثاً. هُدّ والى جانبه مبان كثيرة هُدت تباعاً. واليوم، حين تذكرنا أن من ليس له تاريخ ليس له مستقبل، أدركنا أن الجريمة، أي جريمة، تُنفذ على مراحل لتأتي آخر مرحلة وتقضي على “الأخضر واليابس”.

 

بيت جدي هُدم، مات، أما لبنان الكبير فأصبح اليوم بعمر المئة، واليوم تلملم عاصمته، التي كُتب لها العمر الجديد في الذكرى المئوية، بقاياها. نجول في شارع غورو، المتفرع من منطقة الجميزة، أولى ضواحي بيروت التي تشكلت حول سور المدينة القديم. مشهد يدمي القلب. هنا كانت عشرات المباني الشاهدة على الحقبات العثمانية والمملوكية والصليبية والفرنسية. وكان ما كان. نجول في حي السراسقة. هنا قصور سرسق التراثية الشهيرة. هنا قصور سبع عائلات أرثوذكسية ثرية: تويني وبسترس وسرسق وفياض وطراد وفرنيني وداغر. هنا بيوت القناطر والدرج الأثري ومباني المدارس الموغلة مبانيها في التاريخ مثل “الثلاثة أقمار” و”الفرير” و”العائلة المقدسة”. نعبر في الجميزة. نتمهل امام درج مارنقولا. ننظر يميناً ويساراً. يا حرام! كم صعب بناء التاريخ وكم سهل خرابه. نقصد زقاق البلاط. هناك، قبل مئة عام وأكثر، بني قصر حنينة على نسق الهندسة العثمانية في القرن التاسع عشر. نوافير مياه داخلية مزخرفة وممرات وأعمدة وردهات واسعة. بيت فيروز التراثي، بيت طفولة فيروز، موجود أيضاً في زقاق البلاط. هنا ولدت وهنا ترعرعت وهنا تعرفت على عاصي الرحباني. البيت مشلّع. بيوت وقصور وشجر زنزلخت وردهات وأسوار عمرها من عمر لبنان الكبير. هنا ترك العثمانيون بصماتهم وعاد الفرنسيون ليضيفوا إلى هذه المعالم. وهنا وهناك وهنالك مشاهد تراثية كثيرة، نرغب اليوم، أكثر من أي يوم، بالإحتفاظ بها لأنها تاريخ، وتاريخ الوطن خط متصل، يصعد أو يهبط أو ينحني لكنه لا ينقطع.

 

ثمة شيء في داخلنا يحثنا على التوغل أكثر في التاريخ. ثمة قلق على التراث الذي ضربه انفجار بيروت، كما يضرب أحدهم إمرأة جميلة لكمة مباشرة على وجهها فيُدميها. فأيّ مئوية هذه والتاريخ يتشلع؟ وهل هناك من مبان صمدت بعمر لبنان الكبير؟ وماذا عن شاكلة تلك المعالم المصنفة تراثية من الحقبة العثمانية وزمن الإنتداب الفرنسي؟ وماذا عن صمود “البيت اللبناني” الذي عمره أكبر بكثير من مئة عام؟

 

المهندس المعماري عبد الحليم جبر يغوص في الكلام عن العمارة العثمانية، قبل مئة عام، وتأثرها بالعمارة الأوروبية ايام السلطان العثماني عبد الحميد، ويجول في معالم عثمانية يزيد عمرها عن عمر لبنان الكبير، “فها هي السرايا الحكومية في بيروت على نسق الهندسة العثمانية”، ويشرح: “كانت السرايا مقرّ الحاكم العثماني أو “سراي الولاية”، وجنبها كان السجن العسكري الذي أصبح اليوم مقرّ مجلس الإنماء والإعمار. والسرايا هي أول عمارة فخمة عبّرت عن الحضور العسكري العثماني، وبنيت في القرن التاسع عشر. والسرايا كلمة عثمانية تعني البيت. لكننا، مثلما تعلمون، نستخدم الكثير من الكلمات العثمانية التي كانت رائجة حتى اليوم. وهذا البيت (السرايا) حوّله الفرنسيون الى محكمة وأصبح مقرّ المفوض الفرنسي السامي في لبنان. السرايا الحكومية هي إذاً معلم عثماني بعمر لبنان الكبير. أما برج الساعة في ساحة السرايا الكبيرة فيُعدّ أحد أهم الرموز العثمانية، كون العثمانيين “انبهروا” بالتطور الأوروبي وأحد أسبابه الإلتزام بالوقت، في حين كان يحدد رعايا السلطنة مواعيدهم بحسب مواعيد الصلاة، عند الظهر أو عند العصر، لهذا أحب السلطان عبد الحميد إدخال مفهوم الوقت فكانت “الساعة” شاهدة. وهناك منارة صغيرة على المرفأ، أو كانت على المرفأ، على سنسول الحوض الأول بالتحديد. إنها المنارة العثمانية القديمة. وهي ليست المنارة التي تعرفونها على المنارة. إنها منارة مرفأ بيروت. وهناك قصر سرسق، المملوك من بيت سرسق، العائلة التي كانت تربطها صداقة مع اسطنبول، وكانوا وراء بناء “كازينو عثماني” وضعت سلطات الإنتداب الفرنسي يدها عليه لاحقاً وجعلته مقراً للمفوضين السامين الفرنسيين. أصبح “الكازينو العثماني “قصر الصنوبر”. والجنرال غورو كان واقفاً على درج هذا القصر لحظة إعلان لبنان الكبير”.

 

هذا ليس طبعاً كل شيء، فالحديث يطول ويطول حين يتطرق الى معالم هندسية عمرها من عمر لبنان الكبير. فها هو شارع المعرض ذو التخطيط العثماني، ويشرح المهندس عبد الحليم جبر: “خطّط العثمانيون لهذا الشارع ونفذه الفرنسيون وزادوا عليه “ساحة النجمة” على النسق الفرنسي، وكان يفترض أن يربط هذا الشارع بحرج بيروت لكن اصطدم بوجود الكازينو العثماني فتبدل المخطط”. بيروت القديمة كانت صغيرة، مثلها مثل صيدا القديمة، مجرد زواريب وبيوت متواضعة، أما الفخامة، فخامة بيروت، فانطلقت خارج بيروت المسورة. ويومها اتخذ قرار توسعة مرفأ بيروت، ما أطلق نهضة وأضفى عليها غنى. وتمددت، بحسب جبر، الى منطقة الجميزة والضواحي. وأول حيّ فخم خارج أسوار بيروت كان زقاق البلاط الذي سكنته العائلات الميسورة والإرساليات والسفارات”.

 

ما رأي المهندس المعماري فضل الله داغر بما صمد من بنيان عمره من عمر لبنان الكبير؟ وما هي خصائص المباني الموغلة في التاريخ المصنفة تراثية؟

 

يتحدث داغر عن تغيير “بدأت تشهده بيروت القديمة في العام 1850 وساهم في تمدد المدينة، وهو ما حصل في طرابلس القديمة وفي صيدا القديمة”. ويستطرد: “في ذاك الحين كان “البيت اللبناني” يطغى على الطابع الهندسي في بيروت وهو من ثلاثة عناصر: شاحط القرميد والطين والقناطر. المجتمع البيروتي كان منفتحاً على البحر الأبيض المتوسط والأفكار الجديدة أدخلت نمطاً جديداً. البيت اللبناني كان عائلياً، بمعنى انه يضم الأخوة المتزوجين والأهل، في منزل من طبقتين، بأسقف عالية، أربعة أو خمسة أمتار، لكن تدريجياً تغيرت العمارة البيروتية وأدخلت إليها مواد جديدة مثل الباطون المسلح والإسمنت بعدما كانت الحيطان من الحجر الرملي والأسقف من الخشب، وتدريجياً راح يتقلص الشاحط القرميد، ويرتفع عدد طوابق المبنى ويصبح هناك دكاكين في الطبقة الأرضية. هذه كانت مشهدية بيروت قبل مئة عام وتطورت. وبالتالي بيوت شاحط القرميد لبنانية لكن منذ العام 1925 تقلص بناء مثل هذه البيوت كثيراً في بيروت”.

 

 

البيوت اللبنانية في عشرينات القرن الماضي، تحديداً بعد العام 1925، أصبحت تتميّز بشرفاتها المزخرفة، التي أصبحت في ذاتها غرفة، وأطلقوا عليها “الفيرندا”، وأصبحت بمثابة صالون مفتوح يستقبلون فيها الضيوف ويقيمون السهرات كونها تستقطب الرياح. الفيرندا في البيوت اللبنانية خارج البيت وضمنه، وهي ميّزت البيوت اللبنانية، بأناقتها، منذ العام 1925 واستمرت. وأدرجت بعد الإستقلال في قانون البناء في لبنان حيث تمت الإشارة الى مساحة معينة إضافية، 20 في المئة من الإستثمار، تُخصص لبناء الفيرندا.

 

قبل ذلك، وتحديداً بين عامي 1860 و1920، برز الطابع العثماني، خصوصاً في الجميزة والصيفي والأشرفية وزقاق البلاط. ظهرت القصور بينها قصر حنينة وقصر زيادة وقصر جنبلاط وبيت اللاذقي. ويشرح المهندس فضل الله داغر عن خصائص الفن المعماري العثماني في بيروت “بعكس البيت البيروتي الذي يتميز بانفتاحه الى الخارج، وضمه واجهة بثلاث قناطر زجاجية، وفيرندا أتى النسق العثماني مقفلاً، مع ساحة داخلية مفتوحة”. ويستطرد بالقول: “هناك في المنطقة المنكوبة اليوم 750 مبنى تراثياً، بعمر المئة أو أقل بقليل أو أكثر بقليل، في خطر”.

 

لبنان التاريخ، يحتفي الآن بمئويته الأولى، ويخسر، أو يكاد يخسر، بالتزامن مع “الذكرى الكبيرة” نوستالجيا التاريخ والتراث المديني “فالبيوت تصدعت والتشققات الأفقية كثيرة، فوق الأساسات”. ويستطرد داغر: “المباني التي يزيد عمرها عن المئة قادرة ربما أن تتحمل زلزالاً لكن ما حصل كان أشبه بتسونامي. هي أكلت “بوكساً” قوياً، هائلاً، محكماً ومباشراً. وهناك مبان تحركت في موقعها نحو خمسة سنتمترات. وهذا كله يتطلب دراسات دقيقة تفصيلية”.

 

نعود الى المهندس المعماري عبد الحليم جبر لنسأله عن “صمود” مبان بعمر المئة بعد الضربة المباشرة التي تعرضت لها؟ يجيب: “الحجر الرملي في المباني القديمة، إذا لم يضربه زالزال، يعيش أكثر من الباطون، لكن، إذا أصيب بخبطة مباشرة “يفت” كما البسكوت. والإنفجار شكّل “ضربة مباشرة”، يضيف: “المعالم تغيرت عبر الحقبات المختلفة، فباستثناء بعض القصور مثل قصر بيت الدين وسرايا أبي اللمع في المتين وبعض الأديرة ذات الحضور المهيب، لم يكن في لبنان وجود لدولة تستلزم وجود المباني الكبيرة، لكن، مع زمن العثمانيين، بدأت تظهر مبان تعكس حجم حضورهم مثل مبنى ما أصبح اليوم السرايا الحكومية وقصر الصنوبر”. ويستطرد بالقول: “العمار العثماني لا يعكس دفئاً وجمالاً بقدر الإصرار على إثبات القوة العسكرية والحكم”.

 

لم يبن العثمانيون الجوامع وفضلوا تقوية نظام الملل وترك كل طائفة “تشتغل على حسابها”. ويشرح جبر: “بنيت الجوامع عائلية”.

 

الغوص في تاريخ مئة عام، في هذا العام الذي حمل كل أشكال القلق والذعر والخطر والموت، ليس أمراً سهلاً. فبيروت التي اتسعت أسوارها ايام العثمانيين وتأثرت بالفرنسيين “مفتوحة” اليوم على دم ودمار و”شواهد” التاريخ فيها، للأسف، الى زوال.