لا يكفي أن يكون لدى”حزب الله” وزراء في الحكومة ونواب في المجلس النيابي وقاعدة شعبية وتحالفات سياسية حتى يقال انه ينضوي تحت لواء الشرعية وانه تحت القانون، لأنّ كل ذلك لا يمكن أن يغطّي على كل ما هو غير شرعي وغير قانوني ويتخطى التحالفات والعلاقات. ذلك أنّ الحزب بكلّ ما له من قوّة يبقى على مسافة مما هو شرعي ولا يستطيع أن ينزل تحت هذا السقف الذي لا يمكن أن يتّسع له.
اختار السيد حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” مناسبة مرور عام على اغتيال قائده الأمني والعسكري مصطفى بدر الدين في سوريا ليتحدّث عن النصر الذي حقّقه محور “المقاومة” والنظام في سوريا وعن المعابر غير الشرعية وعن ضرورة التنسيق مع هذا النظام لمنع التهريب وعن رفض أي تفكير باستقدام قوات تابعة للأمم المتحدة لنشرها على الحدود السورية اللبنانية لأنّ هذا المطلب يكمل القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بعد حرب تموز 2006 التي كانت آخر حروب “حزب الله” على الحدود اللبنانية الإسرائيلية قبل أن ينتقل إلى المشاركة بقوّة في الحرب داخل سوريا، وهي الحرب التي قتل فيها مصطفى بدر الدين.
ما حدا يحكي عن المعابر؟
اغتيال بدر الدين، وقبله الحاج عماد مغنية في العام 2008 في قلب حي كفرسوسة في دمشق، واغتيال ابنه جهاد لاحقاً في القنيطرة السورية وعدد من قياديي الحرس الثوري الإيراني، لا يمكن أن يدخل ضمن خانة الإنتصار. وبقاء النظام السوري حتى اليوم على جزء من الأرض والقرار لا يمكن اعتبار أنه انتصار.
عندما تمّ إخراج عامر الفاخوري المتّهم بالتعامل سابقاً مع العدو الإسرائيلي وبخدمته في جيش لبنان الجنوبي ومسؤوليته عن سجن الخيام لمدة من الوقت خرج السيد حسن نصرالله ليعلن أنه بعدما تم إخراج الفاخوري من السفارة الأميركية في عوكر بواسطة طوّافة عسكرية من دون موافقة السلطات اللبنانية “ما حدا بقا يحكينا” عن المعابر غير الشرعية بين لبنان وسوريا. ولكن هذا الملف عاد وانفجر بطريقة لا يمكن من بعدها التستّر عليه أو تجاهله وكأنّه باب هبّت منه عاصفة هواء على الحزب وهو لا يزال يجهد لإقفاله.
قبل أن تنفجر فضيحة المعابر بهذا الشكل كان يخرج وزير الدفاع السابق السيد الياس بو صعب ليتحدّث عن تكبير الموضوع وعن شيء لا أساس له من الصحة وأنّ ما يحكى عن مثل هذه المعابر لا يتعدّى كونه يتناول بعض الممرات بين لبنان وسوريا حيث تتداخل أحياء بعض القرى والمشاعات المتاخمة للحدود بين البلدين وأن لا إمكانية لضبطها وأنّ الجيش اللبناني يقوم بالواجب مع أن قيادة الجيش كانت قد حدّدت سابقاً المناطق التي تسيطر عليها بواسطة عدد من الأفواج الحدودية التي تنتشر على الحدود.
عندما اندلعت حرب تموز 2006 لم تكن مسألة المعابر غير الشرعية قد طرحت بعد بهذا الشكل. لم يكن قد مضى بعد أكثر من عام على انسحاب الجيش السوري من لبنان ولم تكن بعد مسألة تزويد “حزب الله” بالسلاح والصواريخ عن طريق سوريا قد أخذت هذا البعد الكبير. وعندما صدر القرار 1701 في 12 آب بعد شهر من بدء تلك الحرب كان يجب أن يشهد لبنان أكثر من تحول استراتيجي على الأرض.
بموجب هذا القرار تمّت زيادة عديد القوات الدولية إلى نحو 15 ألف جندي وتم نشر نحو عشرة آلاف عسكري من الجيش اللبناني في الجنوب ولكن كل ذلك لم يضع القرار الدولي موضع التنفيذ باستثناء ما يتعلق منه بوقف إطلاق النار. فقد احتفظ الحزب بسلاحه جنوب الليطاني وتم تقييد تحركات جنود القوات الدولية. وطالما أنّ القرار ينصّ بوضوح على استعادة الحكومة اللبنانية بقواتها الذاتية السيطرة على كامل أراضيها وعلى ضبط الحدود أمام حركة نقل السلاح والمسلحين وعلى حقّها بطلب المساعدة من أجل تحقيق سيادتها هذه، فإن هذا المضمون بقي فارغاً من المضمون. وللتذكير فقد حكي وقتها عن ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية على الحدود مع سوريا وعلى ضبط المطار ومرفأ بيروت والحدود البحرية وعلى هذا الأساس أصبح للقوات الدولية قوة بحرية تلعب دور مراقبة السفن الآتية إلى لبنان ولها الحقّ بتفتيشها.
وعلى هذا الأساس أيضاً جرت محاولة وضع مراقبين دوليين على الحدود وفي مطار بيروت ولكن تهديدات “حزب الله” والنظام السوري للحكومة اللبنانية جعلا مجلس الأمن والدول الداعمة لقراره يتراجعون عن التنفيذ الذي كان يتطلب استخدام القوة طالما أن الحكومة اللبنانية لم تكن بوارد تبنّي ما يمكن اعتباره فتح معركة مع الحزب نظراً لكلفتها الكبيرة.
وعلى رغم ذلك عاد الحزب وفتح المعركة في 7 أيار 2008. وعلى هذا الأساس تم الإكتفاء ببعض المعدات التقنية التي لم تعمل لا في مطار بيروت ولا في مرفأ بيروت بينما تركت الحدود مستباحة لأن الحزب بعد حرب تموز كان اتخذ قراره الإستراتيجي بالتعويض عما لحقه من خسائر وبالتالي فتح الطرق كافة بين بيروت ودمشق وطهران.
ثمن العبور إلى سوريا
ولكن الحزب الذي كان يريد أن تبقى هذه الطريق آمنة ومؤمّنة لم يخطر في باله يوماً أنه سيكون مضطراً لدفع ثمن كبير في الحرب السورية ولخسارة نحو أكثر من ألفين من مقاتليه وآلاف الجرحى الذين لم يؤمنوا بقاء النظام السوري وأمان الطريق. من هذه الناحية يبدو السيد حسن نصرالله بعيداً عن مقاربة الواقع علناً، مع أنّه في التقييم الداخلي للوضع لا يمكن الا أن يكون منطلقاً من معطيات مختلفة لا يمكنه أن يعلنها. فهو لا يمكن أن يطل على الناس إلا وهو يحكي عن النصر ولكنّ الحقيقة مختلفة تماماً. فهو سبق وأعلن أنه لن يخرج من سوريا حتى لو كلّفه ذلك عشرات آلاف القتلى وحتى لو اضطر شخصياً للذهاب والقتال هناك. هذا يعني أنّه كان يعلم أنّ كلفة الحرب كبيرة ولكنّه كان يعلم أيضاً أنّ عدم دخول تلك الحرب كانت كلفته أكبر عليه. لقد تمّ وضعه أمام خيارين كلاهما خاسر. انهيار النظام في سوريا لا يمكن إلّا أن يؤّدي إلى انهيار “حزب الله” في لبنان والنظام في إيران. ولذلك لا يعود مقتل مصطفى بدر الدين وغيره من مقاتلي الحزب في سوريا إلا من قبيل دفع الحساب المعروف سلفاً.
قبل الحرب في سوريا كان الحزب لا يزال يحظى ببعض التقدير في العالم العربي على رغم أنه كان فقد معظمه بعد اتهامه بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي أشرف عليها مصطفى بدر الدين. واليوم بعد عشرة أعوام على تلك الحرب لا يستطيع الحزب أن يحدد موعداً للخروج منها فكيف يمكنه الحديث عن انتصار؟
قبل هذه الحرب كان النظام السوري يسيطر على كل الأرض والقرار، اليوم بعد عشرة أعوام لا يمكنه السيطرة على عائلة الأسد وما يتفرع منها ووجوده في المناطق التي يسيطر عليها ليس إلا بقوّة الروس أولًا والإيرانيين و”حزب الله” والتنظيمات التابعة لهما ثانياً. واليوم بعد عشرة أعوام لا يمكن ضمان بقاء الأسد في رئاسة الجمهورية ولا ضمان دستور جديد يحفظ وحدة الأرض والقرار. وبعد هذه الأعوام تعاني إيران والنظام السوري و”حزب الله” من الحصار والعقوبات الأميركية بحيث أنهم غير قادرين على تأمين مقوّمات الإستمرار فكيف في المقابل يتحدّثون عن الإنتصار؟ وهل النصر الذي ينشده “حزب الله” يقوم على استمرار فتح المعابر غير الشرعية لتأمين استمرار الحالة غير الشرعية التي مثلها بسلاحه وقوته وتدخلاته العابرة للحدود وللأعراف الدولية وللسلم الأهلي؟
ليس قليلاً أن يعود مجلس الأمن لتذكير الحكومة اللبنانية بضرورة نزع سلاح “حزب الله” وتطبيق القرار 1559 الذي لم يكن القرار 1701 إلا خريطة طريق لتطبيقه والذي اعتبره الحزب بعد صدوره أنّه لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب فيه. وليس قليلاً أن تستمّر الحكومة اللبنانية بتجاهل استكمال تطبيق القرارين وإقفال المعابر غير الشرعية. ذلك أنّ على الحكومة، هذه الحكومة أو غيرها، أن تفتح معبراً واحداً أمام الحزب هو معبر العودة إلى تحت غطاء الشرعية والخروج من الحالة غير الشرعية التي يمثّلها. لأن هذه الحكومة أو غيرها لم تعد قادرة على تغطية ما لم يعد بالإمكان تغطيته.