Site icon IMLebanon

عند جهينة الخبر اليقين

 

“تُسائِلُ عن أخيهاِ كلَّ رَكْبٍ وعند جُهَيْنةَ الخبَرُ اليَقِينُ فمَنْ يَكُ سائلاً عنه فعـندي لسائِلِهِ الحديثُ المستَبِينُ”

أبيات مجهولة المصدر

تضاربت الروايات عن أصل الحكاية التي نُسجت عليها أبيات الشعر، وأصبحت مثلاً يُضرب للإشارة إلى أنّ الجواب موجود على سؤال حيّر الكثيرين. وفي كل الروايات المتداولة كان هناك قتيل غاب ولم يُعرف عن قاتله شيء، مع أنّه لدى جهينة الخبر اليقين. وفي روايتي هنا، سأعتبر أنّ جهينة مشاركة في الجريمة لكونها تعرف تفاصيلها، وتعرف أنّ الجريمة واقعة حتى قبل حصولها، وسكتت وتواطأت.

 

الخبر اليقين، هو أنّ هناك قتيلاً، والقتيل هنا هو اقتصاد بلد يترنح اليوم على حافة الجوع والعوز، بعد أن قطعت به السبل، ولم يعد هناك في العالم من يمدّ له اليد حتى بفتات الخبز. أما القاتل فقد بقي مجهّلاً بفاعل الخوف أو التجاهل أو الغباء أو المشاركة في دم الصديق. لكن جهينة نطقت أخيراً وأفصحت عن القاتل، ورغم ذلك فلا حساب ولا عقاب، والبلد يترنح ليلحق باقتصاده.

 

سنوات طويلة ونحن نسمع بالحدود السائبة بين لبنان وسوريا، وكان في كل يوم يأتينا كاذب أو منافق أو مستفيد جديد على سدّة المسؤولية، ليستعرض، وهو يجول على المعابر الحدودية مع ثلة من الجند الكاملي الجهوزية، مؤكّداً أنّ كل شيء على ما يرام، رغم بعض الثغرات. وهذه الثغرات المعروفة يبدو أنّها ليست مجرد ثغرات، بل هي هاوية الجحيم التي تتوسع لتُغرق البلد وأهله.

 

لا عجب على هذا الأساس تمّسك جهينة بالوضع القائم، أي استمرار الفساد في كل مكان لتتمكن هي من التخفّي وراءه لتستمر بما تقوم به. وهنا علينا العودة، ولو في إختصار، الى ما فعلته جهينة وأهلها بالقتيل من تعذيب وتنكيل قبل القضاء عليه. وسأختصر القضية في الخمس عشرة سنة الماضية، حتى لا أطيل الكلام الذي يحتاج إلى مجلّدات لو تمّ شرح تفاصيله. الضربة الأولى في هاوية الجحيم كانت تلك الحفرة المشتعلة في الرابع عشر من شباط سنة 2005، يوم قرّر أهل جهينة من القديسين، أن يغتالوا رفيق الحريري، ومن بعده أن يذهبوا الى المشاركة في تقبّل التعازي، وأهل الضحية غافلون عن كون جهينة عندها الخبر اليقين. أُقفل البلد واقتصاده لأشهر، ولولا حكمة أهل الضحية لتجاوز الحزن والعودة إلى الحياة، لكانت الأمور ذهبت إلى المجهول.

 

وما ان مضت بضعة أشهر حتى أتت الضربة الثانية بحرب تموز، التي وسعّت هوّة الجحيم وضربت فرصة كانت واعدة لصيف سنة 2006 ، أبت جهينة وأهلها أن يمرّ على خير. ولكن، عاد أهل الضحية مجدداً الى اختراع خطة إنقاذ كان اسمها “باريس 3″، وهي أيضاً كانت واعدة لإعادة إنعاش الاقتصاد المترنح على حافة الهوّة الملتهبة. فما كان من جهينة إلّا معاجلة “باريس 3” باحتلال الوسط التجاري وخنق الاقتصاد مجدداً، بعدما أخذ بضعة أنفاس. بالطبع، فقد ترافق كل ذلك مع شلّ كل المؤسسات في السلطة التنفيذية والتشريعية، وتأخير انتخاب رئيس للبلاد لسنتين، ومن ثم كانت غزوة السابع من أيار. ورغم كل ذلك، عن ضعف كان أم حكمة، عاد أهل الضحية ودخلوا في مشروعي إنقاذ هجينين ووهميين، هما “اتفاق الدوحة” ومن بعده “السين-سين”، وقد تمكنا من ضخ بعض الأنفاس الجديدة لسنتين، إلى أن عاد النزق لأهل جهينة وقرّروا الانقلاب على كل شيء وقّعوه. أسقطوا الحكومة، ومن بعدها دخلوا في الحرب الكونية الإقليمية، وأدخلوا البلد كله من بعدها في أتونها وتداعياتها، والبقية اليوم معروفة بخصوص نقض جهينة وأهلها كل الوعود والعهود، ويكفي ذكر “إعلان بعبدا” الذي لم يبصر النور، نتيجة المكر والتقية أثناء توقيعه. كل ذاك التنكيل كان يحصل وجهينة وأهلها لا وصمة فساد عليهما، وبقي الآخرون متهمين بمجملهم بالصفقات والألاعيب. كان هذا كله قائماً، وكل من توالى على الحكم يدفن رأسه في التراب، او يخاف أن تنهال عليه الحجارة لو أنّه رمى الحجر الأول، فمن كان منهم بلا خطيئة يا ترى؟

 

قصة المعابر ليست الوحيدة لتفضح جهينة، فتبييض الأموال كان قائماً منذ عقود، والمعابر المالية كانت مفتوحة للفساد المالي الضروري لتمويل “المقاومة”، في سبيل توفير مال الولي الفقيه النظيف، يعني مال الإجرام الدولي هو بديل النظيف. لكن القضية الأهم كانت أبعد وأخطر حتى من الإجرام الدولي، فقد تحوّلت كل المعابر الحدودية، من مرافئ ومطار وحدود سائبة، إلى أدوات نكّلت بمداخيل الدولة ووسعّت هاوية الجحيم المالية. ومن بعدها تكشفت قضية تهريب العملة الصعبة والمازوت والطحين المدعومين بأموال اللبنانيين من كل الطوائف، وبقي الفاعل مجهولاً إلى أن أتى خبر جهينة اليقين بإعلان المسؤولية الجهادية عن التهريب، وتهديد أي من تسوّل له نفسه بقطع رزق المقاومة بقطع اليد! ولو كان الحديث عن الحاجة للتفاهم مع سوريا هو السبيل لتنظيم الحدود، فهل يعني أنّ القائل يبتز الحكومة بالتهريب لإجبارها على التطبيع؟ وإن كانت الحكومة السابقة قد وقفت حجر عثرة أمام التطبيع، فماذا عن الحكومة الحالية الطيّعة؟ ولماذا لم يطرح الوزراء المقاومون، ومن ضمنهم وزراء “أمل” و”التيار العوني” و”المردة” التطبيع؟ ولم يُطرح الموضوع في مجلس النواب “المقاوم” بأكثريته؟ نسأل جهينة عن كل هذا الخبر اليقين، لكن المؤكّد هو أنّ الجزء الأعظم من الهوة المتسعة وسع الوطن اليوم، حفرته جهينة وأهلها المقاومون، لخدمة أسطورة يهون فيها ولأجلها الشر والإجرام، حتى في حق جمهور المقاومة.