أثبتت الأيام التعقيد الكبير لواقعنا السياسي كلما ابتعدنا عن صخب الربيع العربي إلى واقعية حجم الدمار الذي خلفه في البلدان العربية التي استهدفها، والتي انتقلت في معظمها من حالة «الدولة» إلى أحد مخلفات غياب الدولة وتهشمها: الفوضى، والميليشيات، والإرهاب، والفراغ السياسي الكبير، وترهل الأحزاب السياسية وتراجع اقتصادات النماء إلى حالة تقشف عامة، مع بقاء الملفات العالقة، وأهمها الأزمة السورية التي تحولت إلى نقطة استقطاب للصراع العالمي على المنطقة.
لم يكن تصنيف «حزب الله» كمنظمة إرهابية من قبل ألمانيا والذي جاء متأخراً إلا مجرد الحجر الذي حرّك المياه الراكدة تجاه مسألة أعمق وأكبر تتمثل في قدرة الميليشيات المسلحة في النجاة من انكسارات ما بعد «كورونا». صحيح جداً أن أجواء ومناخات الأزمات تعد الأمثل للميليشيات في استغلال قلق الناس وخوفهم بهدف السيطرة، إلا أن ذلك يتطلب خلعاً لرداء التلبّس بالدولة داخل الدولة وإعلان التحول إلى ميليشيا محضة أشبه بالعصابات الصريحة في أعمال النهب والترويع، وهو ما يتجه إليه الحزب بعد عودة المتظاهرين في لبنان إلى الشوارع رغم أزمة «كورونا» لتبدأ معركة أخرى تتمثل في «اقتصادات» الميليشيا والحرب المالية بين الحزب ومصارف لبنان بعد أن أعلنت الحكومة الموالية لـ«حزب الله» في 30 أبريل (نيسان) أنها ستسعى للحصول على مليارات الدولارات من «صندوق النقد الدولي» كجزء من «خطة إنقاذ» اقتصادية.
هذه الرغبة من الحكومة رافقتها محاولات حثيثة من ميليشيا «حزب الله» لفرض كامل سيطرته على فتات العملة الصعبة في لبنان ونهب ثروات البلاد للحفاظ على منسوب الاقتصاد الموازي الذي يغذي شريان حالة «اللادولة» التي تعتمد عليها الميليشيات في عملها كما هو الحال لـ«حزب الله» والحوثيين في اليمن وغيرهم وبشكل يتداخل مع السلطة أكثر من المنظمات الإرهابية الأخرى التي تشتغل بشكل كامل بأسلوب العصابات والإتاوات والنهب.
كل الإجراءات التي تقوم بها الحكومة لمحاولة إنقاذ العملة في لبنان لم تسهم في وقف هبوطها السريع، حيث بلغت أرقام الصرف الثابت للدولار مستويات غير مسبوقة منذ عقود مما حدا إلى استهداف مكاتب الصرافة واعتقال مجموعة من الصرّافين بعد اكتشاف عمليات تلاعب بحسب ما أعلنته وكالة «رويترز».
الأزمة المالية في لبنان هي جزء من أزمة سياسية أكبر لكرة الفساد الملتهبة التي تسبب فيها ذلك التداخل بين مفهوم الدولة والسلطة وبين تلبّس الميليشيا بالسلطة بينما تعمل على تعزيز مفهوم «الدولة داخل الدولة» واقتصادات شبه مستقلة ومؤسسات خاصة مما شكل مع تراجع الاقتصادات في العالم بسبب «كورونا» إلى لحظة الصدام المتوقعة، وإن حاول الحزب تلافيها من خلال تعيين حلفائه في مناصب مالية مرموقة بهدف تعزيز موقعه المالي داخل لبنان.
تحرّكات ميليشيا «حزب الله» المالية ليست اليوم سوى مقدمة لحرب مالية ضروس؛ حرب وجود تهدف إلى استبدال النظام المالي والمصرفي المتهالك من خلال مؤسساته ونظام الميليشيا بهدف أن تنعكس تلك العملية المستحيلة على تعزيز قوته النقدية والتأثير على السيطرة السياسية لاحقاً لعلاج انكساراته في الشارع وتراجع شعبيته حتى داخل مواطن نفوذه سابقاً أو المجتمعات المتعاطفة مع شعارات المقاومة والتحرير والتي وإن انكشفت لا يزال خطاب «حزب الله» ينوّع في خطابه الجديد، وهجومه على المصارف على طريقة «روبن هود» لم يحظ بالنقد الداخلي الحقيقي وفضح مخططه لتدمير ما تبقى من الدولة اللبنانية المتمثل في المصارف التي لا تؤثر على العملة فحسب، بل تملك أصولاً ضخمة استثمارية، ومهما كان التصنيف الدولي أو العقوبات تجاه الحزب وممارساته الداعمة للتطرف والإرهاب مؤثرة فإن بقاء حيويته المالية وقدرته في الداخل على التلبّس بمفهوم الدولة والسلطة ستظل الأزمة تراوح مكانها في ظل غضب المتظاهرين وثورة الشارع التي هي الأخرى مسألة وجودية بالمثل.
حرب المصارف الأخيرة أثبتت سيطرة الحزب على مفاصل الدولة في لبنان، وأنها لا تقف عند حدودها السياسية، بل تعدت ذلك إلى تحوله إلى قوة اقتصادية ضاربة، لا سيما مع فترة الكساد التي تمر بها الدولة وتفسّخ التحالفات السياسية، وتحولها إلى كتل متنافرة غير قادرة على الوصول إلى حل سياسي، وبحسب التقارير الاقتصادية، يعد الحزب أكبر مشغّل في لبنان بعد الدولة.
ما يحدث في لبنان من قبل ميليشيا «حزب الله» ليس إلا صورة مصغرة لمنطقة الشرق الأوسط في صراع مفهوم الدولة ضد مفاهيم الانشقاق والتطرف والولاءات العابرة للأوطان، وهي نماذج متكررة في جوهرها وإن اختلفت في طرائق عملها سواء في التشكلات الشيعية أو السنية للإسلام السياسي المناهض لفكرة الدولة، هذا الصراع على الاستقرار وإعادة منطق الدولة نابع من أزمة مفاهيم في الفلسفة السياسية يمكن وصفها بأزمة تحديد المجال السياسي وفصله عن باقي سياقاته الفكرية والدينية والاجتماعية… مشكلة لا تزال عالقة منذ بدايات الدولة في التاريخ الإسلامي، والتحول من تجربة الجماعة المؤمنة إلى القومية الدينية، ثم وضعية الخلافة وسقوطها لاحقاً، الذي تم تجاوزه في الواقع، لكنه لم يُتجاوز على مستوى الأفكار السياسية داخل الفكر الإسلامي الشيعي، الذي لا يزال عالقاً في تفاصيل الإمامة وغارقاً لاحقاً في نظرية ولاية الفقيه، التي لا يمكن حدوث أي فصل مزعوم بين الديني والآيديولوجي والسياسي من دون تجاوزها، واعتبارها عائقاً عن الاندماج في النسيج السياسي الوطني.
على مستوى الدول التي يهمها استقرار لبنان وأمنه، وفي مقدمتها المملكة ودول الخليج، فإن الإصرار على تأكيد ضرورة عودة لبنان لمفهوم الدولة ومنطقها، واضح عبر بذل كل الجهود السياسية والدبلوماسية، لتفعيل ذلك وفق العقلانية السياسية ورفع مبدأ عدم التدخل السيادي الذي تحرص عليه دول الاعتدال.
من المهم جداً على دول الاعتدال في المنطقة الضغط على المجتمع الدولي والدول المؤثرة في لبنان لإحداث ثقب أمل في جدار الانسداد السياسي في لبنان، لأن بقاء حالة الانسداد منذ انكسارات الربيع العربي في المنطقة ساهم في خلق واقع متردٍ، إضافة إلى احتجاجات الشارع المبررة التي لا أحد يضمن انتقالها إلى الفوضوية المطلقة، لكن الأكيد أن حالة الانسداد ساهمت للأسف في ولادة طبقة جديدة من تجار الأزمات وحالة اللااستقرار، من الذين ترتفع حناجرهم الآن يضغطون على دول الخليج المستقرة بقيادة السوق السوداء للتضليل الإعلامي التي تقوده «الجزيرة» وأخواتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بخطاب شعاراتي واستثمار في شيء واحد هو تقويض وهدم منطق الدولة، وتقويض فضيلة الاستقرار لا غير.