ملفات أساسية كثيرة تتعلق بالانهيار الحاصل في لبنان وبطريقة إيجاد السبل لإعادة بعض الروح إليه ويجري طرحها مع المؤسسات الدولية والعواصم الغربية الكبرى، لكن في المقابل فإنّ هذه الورشة الهائلة والصعبة يقاربها بعض الاطراف اللبنانية بخلفية تأثيرها على الاستحقاق الرئاسي المقبل ونقاط الربح والخسارة.
في الواقع لم يفتح الاستحقاق الرئاسي المقبل اليوم، فللمرة الاولى في تاريخ لبنان يجري فتح هذا الملف مع بدء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. واذا كان صحيحاً انّ مسار عون المتعرّج والغريب والخارج عن المألوف لوصوله الى قصر بعبدا كان استثناء، فكذلك طرحه هو منذ بداية عهده في مقابلة صحافية أنه لا يفكر في تمديد ولايته بل بوصول من يُكمل مسيرته شَكّل استثناء أكبر. ولكن الواضح كان انّ رئيس الجمهورية يضع أحد أبرز اهدافه بأن يسلّم النائب جبران باسيل مقاليد رئاسة الجمهورية بعد ان كان سلّمه رئاسة «التيار الوطني الحر».
ومنذ تلك اللحظة دارت معارك عنيفة وحصلت مواجهات وتبدّلت تحالفات، وحصلت انتخابات نيابية وفق قانون جديد غير مفهوم وعلى اساس تحالفات غريبة حاكت الاستحقاق الرئاسي المقبل. جميع القوى السياسية بدّلت أماكنها على خريطة التحالفات السياسية باستثناء ثابتة التحالف القوي بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» على رغم من تعرّضه في بعض الاحيان لاهتزازات بسيطة ومؤقتة. إلّا أنّ ثمة جديداً بدأ يظهر في هذا الاطار ولو بصوت خافت. فعلاقة «التيار» مع الحزب تمّ ربطها بنحو متين بمباركة عون من خلال تواصل دائم بين باسيل والمسؤول في «حزب الله» وفيق صفا حيث تحصل التفاهمات بكثير من التكتّم، ويتخللها اجتماعات بين الحين والآخر بين باسيل والامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله للاتفاق على سبل ترسيم الخطوط العريضة للسياسات. لكن ثمّة ما استجدّ في المرحلة الاخيرة لا بد من التوقف عنده، فبعد اندلاع حراك 17 تشرين الاول الماضي، تحدث باسيل عن «مؤامرة» أميركية لضرب «حزب الله» وبأدوات شعبية وأخرى لمنظمات دولية وحزبية وايضاً عسكرية. لكن، وبعد مرحلة توتر، سرعان ما اكتشف «حزب الله» انّ للانفجار الشعبي اسبابه الداخلية في المرتبة الاولى. كان للوقت عامل أساسي بحيث انه لو تم إنجاز تعديل وزاري قبل استقالة الرئيس سعد الحريري لكانت التَبعات أقل ممّا حصل لاحقاً. فعامل الوقت كان لمصلحة تفاقم الازمة، وبالتالي دخول غربي أقوى على الواقع الداخلي.
بعد 17 تشرين تبدّل المشهد اللبناني كلياً، وباتَ الشارع اللبناني في مكان آخر. وخلال الاسابيع الماضية رصدت إشارات لافتة على خط العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله». ففي كلام باسيل الاخير اشارة الى «قوى الامر الواقع» كما وصفها في مسؤولية التهريب عند الحدود اللبنانية ـ السورية. وفي الاطلالة نفسها شكوى من الحليف الذي يبقى جانباً ولا يُساند «التيار» في معاركه. قبله كانت هنالك مواقف مشابهة لنواب في «التيار الوطني الحر» كان أوضحها للنائب جورج عطاالله الذي قال عبر شاشة الـ otv انّ التحالف «لا يكون في التفاهم الاستراتيجي من فوق ومن دون تحالف كامل من تحت، فإمّا تحالف من فوق ومن تحت وإمّا لا». وهذه العبارة التي شدد عليها وكررها مرات عدة، كانت تعكس جوّاً داخلياً لتكتل «لبنان القوي»: «التنسيق يجب ان يكون كاملاً وليس ان تتركونا لوحدنا في مواجهاتنا». «نحن لا نلمس أي دعم لمشاريعنا، ولا نرى اي مبادلة بالمِثل». لا بل أكثر، فلقد قيل انّ باسيل أبلغَ الى نواب التكتل أنّ العلاقة بين التيار و»حزب الله» ستصبح من الآن وصاعداً من خلال احد نواب التيار وسيجري اختياره لاحقاً (ويتردد اسم آلان عون) وليس وفق قناة باسيل ـ صفا. التبرير كان أنّ ذلك أفضل لاطلاع الجميع على الملفات. فيما الاشارة واضحة، وهي خفض مستوى التنسيق رداً على المآخذ المتعددة الموجودة.
الواضح انّ هذا الكلام جاء بعد المواجهة الاعلامية والقضائية العنيفة بين باسيل وسليمان فرنجية. فـ»حزب الله» آثرَ الوقوف جانباً والتصرف وكأنه لم يسمع شيئاً، مفضّلاً ترجمة انزعاجه بأخذ مسافة من الطرفين. فخلفية النزاع لها علاقة بالاستحقاق الرئاسي الذي ما يزال بعيداً جداً، والمراحل المقبلة حُبلى بتطورات واستحقاقات قد تقلب الطاولة اكثر من مرة.
وجاء التصويت حول استبعاد سلعاتا من معامل توليد الكهرباء والذي اصطف فيه حزب «الطاشناق» الى جانب «حزب الله»، ليزيد من حدة المشكلة. ورغم انّ رئيس الحكومة شرح أنه ليس للموضوع اي خلفية سياسية، بل تقنية مالية بحتة، خصوصاً انّ خزينة لبنان عاجزة عن دفع استملاكات بقيمة 500 مليون دولار وتدور حولها علامات استفهام كثيرة. وفي اختصار بلغ انّ باسيل يستعد لسلوك سياسي جديد، وهو ما يمكن قراءته بين سطور كلامه الاخير. فهو مثلاً يريد توجيه دعوة غداء للسفيرة الاميركية في لبنان، وساقَ ملاحظات أساسية على خطة مالية تمّ إقرارها في بعبدا اضافة الى تلميحات اخرى معبّرة.
في المقابل يستمر «حزب الله» في سلوكه وكأنه لم يسمع شيئاً ولم يلاحظ اي اشارة، علماً أنّ عدداً من المراقبين يربطون ما يحصل بالاستحقاق الرئاسي المقبل. صحيح انّ الموعد ما يزال بعيداً، ولكن ثمة مستجدات استوجَبت الامساك بالاوراق منذ الآن، خصوصاً انتزاع ورقة التزام «حزب الله» بالمرشح الرئاسي. فبعد 17 تشرين تبدّل مزاج الشارع كلياً، وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها قوى محلية وسفارات غربية مؤثرة بالساحة اللبنانية تراجعاً شعبياً كبيراً أصاب أحزاب الطبقة السياسية الحاكمة، وخصوصاً على الساحتين المسيحية والسنية. وطاوَل النزف الشعبي البيئة الشعبية للتيار الوطني الحر. ما يعني انّ الخصومة في الشارع الاسلامي لخطاب باسيل، على أمل توسيع دائرة التأييد الشعبي المسيحي له، جاءت نتائجها عكسية ما استوجَب البحث عن تعويضات طارئة تحميه من الخروج باكراً من السباق الرئاسي، فملف استخراج الغاز، والذي كان قد تمّ تحضيره لاستثماره في الحد الاقصى في الملف السياسي – الرئاسي، صدمَ الجميع بنتائجه السلبية.
وحتى الملف الذي عرف بالفيول المغشوش، والذي أثيرت حوله زوبعة قضائية واعلامية، يتّجه الى وضعه على الرف. فأورور الفغالي تم اطلاق سراحها، وإدانة سركيس حليس لها علاقة بتزوير دوامات عمله. وشركة «سوناطراك» تم تجديد عقدها، و»البساتنة» لم يجر استدعاؤهم اساساً، ما يعني انّ الملف إمّا كان خالياً من محتوى اتهامي جدي، او انّ المصلحة تقضي بإقفاله لأنّ شظاياه كثيرة. ومعه هنالك مَن فهم انّ باسيل يريد التزاماً ضمنياً، ولكن واضحاً، من «حزب الله» بالسير به كمرشح لرئاسة الجمهورية، في نسخة مكررة عن معركة العماد ميشال عون. ففي السنة المقبلة ستحصل تسوية في سوريا تواكِب إعادة انتخاب بشار الاسد رئيساً، وهو المعروف بصداقته العائلية القوية مع سليمان فرنجية.
في المقابل، فإنّ «حزب الله» اللاعب القوي في الاستحقاق الرئاسي وبتجاهله للنزاع الحاصل، يوحي بأنه ليس أبداً في وارد إعطاء التزامات مسبقة. فعدا عن انّ ما حصل مع العماد ميشال عون هو استثناء غير قابل للتكرار، فإنّ تركيزه هو على المواجهة الصعبة التي يخوضها الى جانب ايران في وجه واشنطن ومشاريعها للمنطقة. كما انه لا يحبّ سياسة الابتزاز عند المنعطفات الصعبة. وهو لذلك لم ولن يتدخل لا مع فرنجية ولا مع باسيل ولا مع أيّ طامح آخر، وسيبقى غير معني. مع الاشارة الى أنّ الجواب الرسمي لـ»حزب الله» عندما يُسأل عن علاقته بباسيل يأتي دائماً: «جبران باسيل حليفنا».
في كل الحالات فإنّ الرئيس المقبل للجمهورية سيكون هذه المرة مرتبطاً بالتطورات الاقليمية اكثر من اي مرة سابقة.
فالساحة اللبنانية امام تحديات هائلة ستصيب المعادلة السياسية فيها بطريقة او بأخرى.
وحكومة «الوحش» الاسرائيلية تتأرجح بين بركان ضَم مناطق في الضفة الغربية وتنفيذ ضربات عسكرية جوية وصاروخية واسعة في المنطقة الممتدة من دمشق وحتى الجولان. وإسرائيل ايضاً تقوم بإرسال أسلحة الى اكراد شمال سوريا تمهيداً لعمل ما، في وقت انطلقت مجموعات «داعش» لقطع الطريق البري بين ايران ولبنان. وبعدها هنالك انتخابات رئاسية اميركية ستَليها من المفترض مفاوضات مع ايران ستكون الساحة اللبنانية حاضرة خلالها. والرئيس المقبل سيحاكي كل هذا، ما يعني انّ في العجلة الندامة.