اعتادت الطبقة السياسية اللبنانية على استيلاد الأزمات الواحدة تلو الأخرى، والتي تتراكم مع تغييب المخارج والحلول لها، خصوصاً بعد الخروج السوري من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، والذي غابت معه كل آليات الضبط والمعالجة، التي كان يلجأ إليها من أجل الحفاظ على مصالحه ومصالح حلفائه في محور المقاومة والممانعة. وكانت أبرز الإنجازات السورية مع بداية جمهورية الطائف بتسهيل انتخاب الرئيس إلياس الهراوي، ودعم توحيد الجيش وحل الميليشيات، مع استثناء حزب الله، وذلك انطلاقاً من اعتباره مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الجنوب، لم يطعن أحد بهذا الاستثناء الخاص بحزب الله، ولم تترك الوصاية السورية أي مجال لأية قوة معارضة للتعبير عن شكوكها وهواجسها جرّاء ربط مصير لبنان بالمشروع الإقليمي الذي يعمل حزب الله على تحقيقه.
بعد خروج القوات الإسرائيلية من الجنوب في أيار 2000، والبدء بتنفيذ القرار 425، ومع انتهاء مهمة التحرير التي انيطت بحزب الله دون سواه، كان من المفترض أن يحل حزب الله جناحه العسكري ويتحوّل كلياً إلى العمل السياسي، ولكن لم يحدث ذلك، حيث جرى استحضار قضية تحرير مزارع شبعا كعذر محل لاحتفاظ الحزب بقدراته العسكرية وبوظيفته كمقاومة «للاحتلال المستمر في المزارع»، وما أدراك ما المزارع بكل إرثها وتعقيداتها القائمة بين لبنان وسوريا منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي.
وكان اللافت في الأمر الرفض والتعنت السوري لمطالب لبنان المتكررة لترسيم الحدود، وبالتالي تحديد لبنانية مزارع شبعا، بعد ان أبدت الأمم المتحدة استعدادها لاعتبارها كأرض محتلة، فور الاعتراف السوري بلبنانيتها. وكان الرد السوري «لنبدأ بالترسيم من مصب النهر الكبير، ولنترك المزارع الى حين تحرير الجولان».
بعد الخروج السوري من لبنان، انبرى حزب الله لقيادة كل حلفائه وحلفاء سوريا في لبنان في سلسلة من العمليات لمواجهة التيار الاستقلالي الذي انشأته قوى 14 آذار. وكان من نتيجة هذه المواجهة اقفال وسط بيروت من قبل حزب الله وحلفائه لفترة سنتين، مع تعطيل مجلس النواب والعديد من المؤسسات الرسمية طيلة الفترة المتبقية من عهد الرئيس اميل لحود، بالإضافة لفترة التعطيل لانتخاب رئيس للجمهورية والتي امتدت إلى ما بعد أحداث 7 أيار 2008، والتي تلاها مؤتمر الدوحة، والتوافق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية. لكن لا يُمكن القفز فوق حرب 2006 مع اسرائيل وتكاليفها الغالية على لبنان، حيث قدّرت الخسائر بما يزيد عن عشرة مليارات دولار، بالإضافة إلى الخسائر السياسية الكبرى التي مني بها لبنان جراء استعمال فائض قوة تنظيم وسلاح حزب الله في الداخل من أجل فرض هيمنة الحزب على القرار السيادي، وربطه كلياً بمشروعه الاقليمي من خلال التدخل المستمر منذ عام 2012 في الحرب السورية والنزاعات الاقليمية الأخرى، والسيطرة على الجزء الأكبر من الحدود السورية، وفتح كل المعابر للتهريب وبشكل مضرّ بمصالح لبنان الاقتصادية والمالية، هذا بالإضافة إلى تحكمه بأمن الحدود، مع كل ما رافق ذلك من اتفاقات مكتوبة مع المنظمات الارهابية كالنصرة وداعش، قضت بإخلائها إلى الداخل السوري على حساب أمن وكرامة لبنان وجيشه ودماء بعض عسكرييه.
نجح حزب الله في «ترويض» كل الحكومات، بدءاً من حكومة سعد الحريري الأولى، والتي اسقطها بالثلث المعطّل بالتعاون مع حلفائه داخلها وعلى رأسهم التيار الوطني الحر، الذي ارتبط معه بتحالف مار مخايل، والذي وقعه العماد ميشال عون على نيّة تسهيل وصوله لرئاسة الجمهورية، ولو كان ذلك على حساب سيادة لبنان. في الواقع طوّقت رئاسة الحكومة والزعامات السنية معها من خلال هذا التحالف، والذي أدى في نهاية المطاف إلى استسلام سعد الحريري للأمر الواقع والاقرار بهيمنة حزب الله على القرار الوطني، من خلال القبول بانتخاب حليفه العماد عون رئيساً للجمهورية، مع القبول بقانون انتخابي كرّس سيطرة الحزب السياسية على كامل مفاصل السلطة في لبنان بعد امتلاكه للأكثرية النيابية، والتي تمكنه من تسمية رئيس الحكومة، واختيار وزرائها، بما يتناسب مع مصالحه السياسية في الداخل وعلى مستوى الإقليم، وكان من أبرز نتائج هذه الهيمنة نجاح حزب الله في تعطيل كل آليات استقلالية وسيادة الدولة اللبنانية، ومن أبرزها تعطيل مفاعيل شعار تحييد لبنان، بدءاً من إسقاط تنفيذ إعلان بعبدا، ومروراً بكل التعهدات في البيانات الوزارية «بالنأي بالنفس» عن الصراعات والمحاور. ليس هناك من مبالغة في القول بأن حزب الله يهيمن على مجمل القرار الوطني، وبأن حكومة حسان دياب هي حكومة حزب الله بامتياز، وذلك انطلاقاً من قدرته على التحكم بكل خياراتها وقراراتها، بما فيها ما يتعلق بمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، مع رفض كامل للقبول بالشروط التي يمليها صندوق النقد الدولي من أجل مساعدة لبنان، وليس هناك أدنى شك بأن طلب السيّد حسن نصرالله للحكومة للبحث عن حل الأزمة، من خلال التوجه شرقاً إلى سوريا والعراق، يشكل العقبة الكأداء التي تعترض مسلك المشروع الإصلاحي لحكومة دياب.
نجحت السياسات التي اعتمدها الحزب وحلفاؤه خلال العقدين الماضيين في تطويق واخضاع مؤسسات الدولة، ومختلف القوى السياسية للتماهي مع أهدافه وبرامجه ومصالحه الداخلية، وصولاً إلى القبول بالخيارات التي يمليها على كل الصعد الاقتصادية والديبلوماسية والأمنية والتشريعية. لقد أظهرت حكومة دياب عجزها عن اتخاذ أي قرار لا يرضى عليه حزب الله وحلفاؤه، وان خير مثال على ذلك الضوء الأخضر الذي اعطاه الحزب للبدء بمفاوضات مع صندوق النقد، والقرار الأخير بشأن معمل الكهرباء في سلعاتا، والذي يخدم مصالح حليفه جبران باسيل.
لم يكتفِ حزب الله بحصاره لبنان في قراراته الداخلية المختلفة بل ذهب إلى تطويقه عربياً ودولياً، سواء من خلال المواقف التي أعلنها ضد جميع هؤلاء الحلفاء، أو من خلال أنظمة العقوبات التي فرضت على كل الكيانات التابعة لحزب الله في الداخل والخارج، وذلك بعد تصنيفه أميركياً وأوروبياً وعربياً كمنظمة إرهابية، ويأتي في نهاية هذا السياق ما يترتب من نتائج وتداعيات على تنفيذ قانون «قيصر» الجديد.
بات لبنان في حالة عزلة شبه كاملة عربياً ودولياً، بحيث انه بات عاجزاً عن معالجة أزماته الآلية والاقتصادية، في غياب قدراته الذاتية على استعادة سيادته من خلال ضبط سلاح حزب الله، وبالتالي استعادة قرار السلم والحرب، والعودة إلى إلزامات إعلان بعبدا بتحييد لبنان قولاً وفعلاً.
لبنان مطوّق حتى الاختناق، بسياسات وهيمنة حزب الله، وبما يجيز السؤال: من يفك الطوق عن لبنان ويحرره من أسره؟