لم يكن تصرّف «حزب الله» في بيروت يوم السادس من حزيران الجاري تصرّفا طبيعيا. لم يكن هناك شيء طبيعي في ذلك اليوم الذي أراد فيه لبنانيون من مشارب مختلفة إعادة الحياة الى ثورة السابع عشر من تشرين الاوّل 2019، لكنّهم اخفقوا في ذلك. اخفقوا لاسباب عدّة من بينها الاعتقاد، لدى بعضهم، ان في الإمكان الفصل بين المطالب الشعبية وسلاح «حزب الله» الذي ليس سوى سلاح مذهبي، لا شرعية له، يعمل في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني في لبنان بالذات ومحيطه.
بغض النظر عن التقصير الذي بدر عن الذين شاركوا في محاولة إعادة الحياة الى ثورة 17 تشرين… وبغض النظر عن وجود سياسيين هواة لا يستوعبون ان اسقاط حكومة حسّان دياب لا يمكن فصله عن سلاح «حزب الله» نظرا الى انّ هذه الحكومة هي من انتاج الحزب وانّه لولا السلاح غير الشرعي لما كانت مثل هذه الحكومة… وبغض النظر عن اختراقات لجسد ثورة 17 تشرين، وهي اختراقات ظهرت بوضوح من خلال اقتلاع بلاط الأرصفة والطرقات وتلك التي تغطي الجدران في محيط مجلس النواب، الّا ان ما يفترض التوقّف عنده هو نقطة بالغة الاهمّية.
تتمثّل هذه النقطة في التوتر الذي ظهر على عناصر «حزب الله» ان في ساحة الشهداء او في احياء بيروتية أخرى، من بربور الى طريق الجديدة، مرورا بكورنيش المزرعة وصولا الى عين الرمانة، وهو حيّ مسيحي.
لعلّ افضل دليل على هذا التوتر لجوء عناصر «حزب الله» الى العنف والشعارات ذات الطابع المذهبي المستفزّ من نوع تلك الموجهة الى عائشة زوجة الرسول.
من المفيد التوقف عند هذه الظاهرة لسبب غير مرتبط بكون تصرّفات عناصر «حزب الله» غريبة عن سلوكهم العادي بمقدار ما انّها تعكس توترا على اعلى المستويات. يكشف هذا التوتر نوعا من القلق جعل الحزب يكشف عن وجهه الحقيقي، وهو الوجه الذي طالما سعى الى اخفائه في هذه المرحلة بالذات من اجل الظهور في مظهر الحزب السياسي المشارك في الحكومة اللبنانية مثله مثل ايّ حزب مدني آخر.
ما أجبر «حزب الله» على الكشف مجددا عن وجهه الحقيقي، وهو الوجه الذي حاول في السنوات القليلة الماضية اخفاءه، فهو الوضع الإقليمي عموما وما يدور في سوريا تحديدا. لدى الكلام عن توتر «حزب الله»، يفترض البحث عن سوريا والوضع فيها حيث تجاوز سعر الدولار 3000، بل 3500، ليرة سورية… هذا اذا وجد من يبيع دولارا واحدا.
لا يتعلّق الامر بالتراجع الإيراني على كلّ صعيد في المنطقة بسبب تأثير العقوبات الأميركية اوّلا، بل ان سوريا تشهد في هذه المرحلة تطورات في غاية الخطورة تشير الى دخول النظام الاقلّوي فيها مرحلة بداية النهاية. ثمّة محطات من المفيد التوقف عندها للتحقق من خطورة المرحلة الراهنة ومدى تأثر «حزب الله» بها.
في آذار من العام 2011 اندلعت الثورة السورية. تبيّن انّها اعمق بكثير مما يعتقده النظام الاقلّوي – العائلي الذي سرعان ما استعان بايران كي يحول دون افلات دمشق من بين يديه. انقذت ايران وميليشياتها النظام. ذهب «حزب الله» الى سوريا متذرعا بحجج عدّة من بينها الدفاع عن المقامات الشيعية. ما ساعد في بقاء النظام الذي على رأسه بشّار الأسد حيّا يرزق إدارة باراك أوباما التي كانت مستعدة لاسترضاء «الجمهورية الإسلامية» الى ابعد حدود من اجل الوصول الى اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. هذا ما جعل أوباما يتغاضى عن استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في حربه على الشعب السوري صيف العام 2013.
في أيلول 2015، ظهرت حدود القدرة الإيرانية على انقاذ النظام. ذهب قاسم سليماني الى موسكو مستنجدا بالآلة العسكرية الروسية التي مكّنت بشّار الاسد من البقاء في دمشق. اكتشف الرئيس فلاديمير بوتين في 2020 انّ لا شيء يمكن ان يبقي بشّار الاسد في دمشق. اكتشف حدود ما تستطيع دولة مثل روسيا عمله، فكانت الاتفاقات مع تركيا، وهي اتفاقات ستكرّس الوجود التركي في الشمال السوري ويمكن لهذا الوجود التمدّد وصولا الى محيط حماة في ظلّ تفاهمات روسية – إسرائيلية في العمق بمباركة اميركية. تتناول هذه التفاهمات دمشق ومحيطها وكلّ ما له علاقة بدرعا وريفها أيضا.
انتهى النظام السوري قبل ان ينتهي رسميا وقبل ان يبدأ سريان «قانون قيصر» بعد اقلّ من اسبوع. لم يعد هناك دولار لا في سوريا ولا في لبنان الذي دخل بدوره مرحلة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها مصيرية في ظلّ عهد لا علاقة له من قريب او بعيد بما يدور في المنطقة والعالم وحكومة لا تليق بها سوى عبارة مهزلة المهازل. سدّت كل الأبواب العربية والأوروبية والاميركية في وجه «عهد حزب الله» و»حكومة حزب الله». ستبقى هذه الأبواب موصدة الى اشعار آخر ما دام «حزب الله» يسيطر على لبنان.
طبيعي ان يتوتّر «حزب الله» بعد كلّ استثماراته المكلفة في مشروع فاشل اسمه المحافظة على النظام السوري. ما ليس طبيعيا انّ تكون نتيجة فشله المدوي في سوريا، وهو فشل إيراني اوّلا، تفجير كلّ احقاده على لبنان واللبنانيين داخل البلد نفسه مجازفا باثارة فتنة مذهبية وطائفية بحجة الدفاع عن سلاحه. يستطيع هذا السلاح القتل والتدمير، يستطيع المشاركة في الحرب على الشعب السوري. يستطيع ان يكون في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني في العراق واليمن وفي هذه الدولة الخليجية العربية او تلك أيضا. ما لا يستطيعه هذا السلاح هو ان يكون في خدمة لبنان وتوفير أي امل في إخراجه من ازمته الاقتصادية التي هي ازمة ذات طابع سياسي قبل ايّ شيء آخر… ازمة مرتبطة بسلاح «حزب الله» الذي صار يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي ومن هو رئيس الحكومة السنّي ومع من يتعاطى لبنان ومع من لا يتعاطى!