كل الذين تصيبهم الدهشة والاستغراب من أحداث لبنان المتلاحقة هم في غيبوبة وفي حالة إنكار رافضين أن يقرأوا علامات متتالية حصلت عبر فترة غير بسيطة من الوقت في هذا البلد وتحديداً منذ اتفاق الطائف.
منذ اتفاق الفرقاء اللبنانيين على إنهاء الحرب الأهلية الذي عرف باسم اتفاق الطائف الذي لم يكن بقناعة «كاملة» من حافظ الأسد والنظام السوري، والحالة السياسية غير مستقرة في لبنان. فبدأ الأسد في «تصفية» كل القادة الوطنيين اللبنانيين الذين لا يمكن تطويعهم لصالح المسار السوري، سواء بالاغتيال أو بالإبعاد. فكان أول الضحايا الرئيس المحترم رينيه معوض الذي اغتيل خلال تفجير مهول لموكبه الرئاسي، وبعد ذلك تم «إبعاد» حسين الحسيني من رئاسة البرلمان اللبناني، وهو الذي كان أهم عرابي اتفاق الطائف من الجانب اللبناني، والرجل لم يكن من الممكن تطويعه سورياً، فهو سليل بيت سياسي أصيل ونظيف اليد وكلمته مسموعة على كل الأصعدة الوطنية والطائفية وبالتالي «لا يصلح». وكان قرار محمد ناصيف المعروف بأبو وائل، وهو أقرب وأهم مستشاري حافظ الأسد بتصعيد نبيه بري ودعمه لرئاسة البرلمان.
ولكن كعادة النظام السوري الذي كان يلعب على قاعدة «فرق تسد»، ولا يسمح بهيمنة صوت واحد لقيادة أي طائفة في لبنان، قام أيضاً بدعم منقطع النظير لتنظيم حزب الله (بعد معارك دموية ضارية خاضها ضد «أمل» قبل انتهاء الحرب الأهلية) وأصبح في الساحة الشيعية كتلتان مؤثرتان بعد أن كان الثقل التقليدي قديماً للأسر البورجوازية ثم انتقلت إلى حركة «أمل»، وبالتدريج بدأ النظام السوري في الخلاص الممنهج من كل الأصوات اللبنانية التي لا تخضع له. وتوالت عمليات الاغتيالات من جهة، والتوغل الاقتصادي من جهة أخرى.
النظام المصرفي اللبناني بات المخزون الاقتصادي للتعامل المالي الموازي للنظام السوري ومن هم في دائرته وتحول إلى «رئة الاقتصاد السوري». كل ذلك يحصل ومعدلات الهجرة لمسيحيي لبنان تتواصل بأعداد مهولة حتى فرغت مناطق العمق الماروني التقليدي في الشمال مثل زغرتا وبشري وكسروان من الشباب تقريباً، وهو المشهد الذي أشار إليه ببراعة الكاتب اللبناني الكندي كمال ديب في كتابه المهم «وهذا الجسر العتيق» الذي توقع فيه أن يخلو لبنان من الوجود المسيحي بحلول عام 2020. واليوم مع بسط نفوذ تنظيم «حزب الله» المتزايد وإحكامه وسيطرته بشكل متزايد على مفاصل الدولة، أصبحت رئاسات الدولة الثلاث الجمهورية والوزراء والبرلمان تحت سيطرته، ولم يبقَ إلا منصب حاكم مصرف لبنان الأداة التنفيذية للعقوبات الاقتصادية على «حزب الله» وأنصاره المحسوبين عليه، وبسبب ذلك تحول رياض سلامة حاكم مصرف لبنان إلى أيقونة كل ما هو فاسد وسيئ في لبنان وعلت «أصوات» تطالب بإقالته (مؤخراً تم تعيين صهر نبيه بري نائباً أول له ليدير البنك المركزي في حالة إقالة سلامة).
في الأيام الأخيرة أدت سحوبات تاريخية للدولار من لبنان وتهريبها إلى سوريا لدعم الليرة السورية المتهاوية، إلى تدهور غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانية، وموجة من الغضب الشعبي في شوارع أكثر من مدينة لبنانية. وفي الوقت نفسه يتم تهريب الدولارات من فنزويلا وأفريقيا عن طريق مطار بيروت الخاضع لسيطرة «حزب الله» عبر الحدود اللبنانية – السورية التي يسيطر عليها الحزب. لبنان يعيش فعلياً ما وصفه ذات يوم الكاتب اللبناني وضاح شرارة في كتابه الذي يحمل عنواناً يشرح نفسه «دولة حزب الله». يراهن «حزب الله» على فرض التغيير واستغلال الأحداث الكبرى، ويستعد اليوم للتعامل الانقلابي الاستباقي مع مسألتين؛ الأولى هي الواقع الجديد الذي فرضه الوجود الروسي في سوريا وتقليص الدور الإيراني والحديث عن انحسار دور الأسد المستقبلي، والمسألة الثانية هي صدور قانون قيصر الأميركي لمعاقبة النظام السوري وأنصاره. وهذان الحدثان سيفرضان أمراً واقعياً جديداً بحسب «حزب الله» ينتهي فيه النظام السياسي القديم في لبنان، ويولد نظام صوت واحد لشخص واحد، وهو ما يراهن عليه «حزب الله» باعتقاده أنه ديموغرافياً كطائفة باتت لديه الأغلبية، وهذا يفسر تقاعس جبران باسيل المحسوب على «حزب الله» في منح لبنانيي المهجر حقوقهم السياسية الكاملة (وأغلبيتهم من المسيحيين كما هو معروف)، وأن الرئيس اللبناني القادم بالتالي لن يكون في بعبدا بل ربما في الضاحية الجنوبية.
ما يحصل في لبنان اليوم جزء واضح من خطة «حزب الله» التي أعلنها حسن نصر الله ذات يوم، ولكن قُتل الشرفاء الذين حذروا منها وتآمر آخرون لتنفيذها.