Site icon IMLebanon

«حزب الله» وعلمنة لبنان

 

منذ بدء الحراك اللبناني ضد نظرية الدولة القائمة والملاحَظ أن الطبقة السياسية لا تأخذ خطاب المعترضين على محمل الجد. رصد النبرة واللغة والمفردات التي قوبلت بها «حركة تشرين» من الساسة المتعالين تدور حول حق التظاهر، وضرورة الحفاظ على المكتسبات، والبعد عن اللغة الشتائمية، وتذكر ما حققه العهد الحالي. رئيس الحكومة ربما لديه مشروعه الضخم لتأليف كتبٍ ترصد منجزات عهده.

الواقع أن الأزمة أكبر من الحكومة ومن البرامج الإدارية والتنموية، وإنما تكمن في النظام. ثم إن الفاعلين مع الحركة قد يختلفون على أمورٍ عديدة ليس من بينها ضرورة البدء بتأسيس نظام علماني يجدد من أدوات التعاقد المدنية بين الإنسان والآخر، ويعزز من حداثة الدولة، ويأخذ لبنان إلى الصيغة العلمانية الشاملة. من المفارقات الصارخة أن لبنان الذي يبدو أن العلمانية خُلقت له لم يستطع حتى مقاربتها ويخاف أهله من تأثير الغزو الأصولي السني والشيعي من معاتيه «داعش» و«القاعدة» إلى سفاحي «حزب الله» ومن في فلكهم على طموح جيل بأكمله نحو العلمنة.

يدافع ويقاتل «حزب الله» من أجل الحفاظ على الأسد الذي يعد نظامه علماني البنية. ولكن الحزب لا يقبل في أدبياته الانضواء ضمن دولة علمانية. بل ينضوي ضمن منظومة الإسلام السياسي، والحكومة الدينية. يشترك الأصوليون في أدبيات دحض العلمانية، يرونها مناسبة للغربيين باعتبار تاريخية الصراع مع الكنيسة، ويُخرجون أنفسهم من المسؤولية عن البطش بالبشرية عبر القتل ونشر الكراهية السوداء، والتكفير والتعدي على حدود الله، والإلحاد بآيات الله. و«حزب الله» من ضمن أولئك الممانعين ضد مفهوم العلمانية، لكنه لا يمانع أن يحول دولة بأكملها إلى ثكنة عسكرية، حتى وإن انهار اقتصادها، وتخلى عنها حلفاؤها، ويئس أهلها وسكانها.

الأستاذ القدير مراد وهبة كتب سلسلة تحت عنوان: «غابت العلمانية، فغرق لبنان» يتحدث عن قصة مظاهرتين شاهدهما في زيارته للبنان عام 2005 ومما قارنه بينهما: «في الساحة الأولى تجمع مئات الآلاف من الموارنة والدروز والسنة، وكانت الهتافات تطالب بالبحث عن الحقيقة في اغتيال الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005 مع تأييد قرار مجلس الأمن رقم 1559 والخاص بضرورة القبض على الجناة. وفي الساحة الثانية كانت الهتافات دائرة حول رفض القرار مع تقديم الشكر والعرفان لسوريا… وإذا كانت الساحة الثانية ساحة أصولية، فالساحة الأولى كانت هلامية الهوية، أي لا يمكن وصفها بأنها علمانية. وإذا أضفت ما شاهدته في لبنان في عام 1974 إلى ما شاهدته فيها في عام 2005، أي بعد أربعين عاماً، يمكنك الوصول إلى هذه النتيجة، وهي أن الفوضى الحادثة في لبنان في عام 2020 من مظاهرات عارمة وانهيار اقتصادي وتصادمات حزبية بلا معنى تدل على تدهور الإرهاصات العلمانية المتمثلة في نفر من القيادات الدينية وفي الحركة الثقافية – أنطلياس في مواجهة تصاعد التيار الأصولي المتمثل في (حزب الله) والملتزم بإيران».

الآن تطوّر المشهد، معظم الأجيال التي نشأت على مرحلة إخراج السوريين من لبنان تكوينهم مختلف عن «جيل القدر» كما هو وصف مطاع صفدي، الاقتران بالحداثة الغربية، والتأثر بالأسلوب الدنيوي الأميركي، والقراءة في سحر الثقافة الغربية ووهجها أعطى الأجيال فرصة التحدي، الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الأصولية الكارثية الدموية التي تمثلها الأحزاب المجنونة، وإما الانضواء مع التيار الكوني، تيار الحداثة والاقتصاد والعمل. بطبيعة الحال لن يجد «حزب الله» معه من هؤلاء إلا مناصريه الذين عزلهم وربّاهم وأشرف على تعليمهم في محاضن الحزب ومدارسه وجامعاته، أما الأجيال المنطلقة الشابة فإنها ستختار تيار العصر وهو ببساطة تيار حداثي ليبرالي غربي البنية والتأسيس.

«حزب الله» لا يعترف بالدولة ومفهومها، ولا يرى لبنان أساساً دولة، وإنما يتعامل معها بوصفها الواقع السياسي القائم، وما تضمه من أحزاب وتيارات هي تشكيلات موروثة يمكن تآكلها لاحقاً أو القضاء عليها كذلك؛ هدد الدروز عام 2008 وهو تهديد وجودي لو نُفّذ سيكون له أثره الديموغرافي، وفهم الزعماء لغة الحزب جيداً آنذاك، ولذلك لا يهتم الحزب بالدولة ولا بمصيرها.

لم يحسم يوماً «حزب الله» خياراته؛ أهو حزب لبناني أم حزب سياسي (في) لبنان؟!

يبدو لبنان عبر تاريخه المتعدد بحاجة إلى نظامٍ علماني أكثر من أي بلدٍ آخر. الطريق نحو تحقيق المفهوم ليست سهلة، ولكنها تستحق مغامرة الأجيال الصاعدة المتربية خارج أطقم الآيديولوجيا التي هيمنت على المنطقة طوال قرنٍ من الزمان.