أخيرا، تحقّقت وحدة المسارين بين لبنان وسوريا. ما حلم به حافظ الأسد وما حلم به بعده بشّار الأسد صار حقيقة على ارض الواقعين السوري واللبناني. حقيقة صنعها الدولار المفقود في البلدين… و»حزب الله».
ثمّة حاجة الى تقديم شكر كبير الى «حزب الله»، ومن خلفه ايران، على ضمّ لبنان الى الدول المفلسة التي لا مستقبل لها في المنطقة. عمل الحزب كلّ ما يستطيع منذ العام 2011، وحتى قبل ذلك، على تحويل لبنان جزءا لا يتجزّأ من الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه.
يحصد لبنان حاليا ما زرعه «حزب الله» في سوريا. ما نشهده هذه الايّام يتجاوز بكثير التورّط المباشر في الحرب على السوريين. ما نشهده يتمثّل في استطاعة «حزب الله» جعل الرابط المذهبي يعلو على كلّ ما عداه في العلاقة بين لبنان وسوريا، أي الرابط بين دولة مستقلّة ودولة اخرى.
بكلام أوضح، كان هدف «حزب الله»، بناء على طلب إيراني، العمل على انقاذ النظام السوري من منطلق مرتبط بالهويّة المذهبية لهذا النظام الاقلّوي، قبل أي شيء آخر. في ظلّ هذا الطلب، لم تعد الحدود اللبنانية موجودة. لم تعد السيادة الوطنية اللبنانية، او ما بقي منها أصلا، قائمة. الاهمّ من ذلك كلّه، لم يعد لبنان سوى جرم يدور في الفلك الإيراني لا دور له سوى دور «الساحة» التي تستخدم لدعم النظام السوري بغض النظر عن الكلفة التي ستترتب على لبنان واللبنانيين، بما في ذلك الشيعة. بات لبنان، باقتصاده ومصالحه الوطنية، امتدادا طبيعيا لما يدور في سوريا على كلّ صعيد، بما في ذلك دخول «قانون قيصر» حيّز التنفيذ ابتداء السابع عشر من حزيران الماضي.
بقي لبنان منذ استقلاله في العام 1943 في معزل عن دوامة الانهيارات الاقتصادية التي تسببت بها قوانين توصف بانّها اشتراكية، في حين كانت مجرّد وسيلة لافقار الشعب والسيطرة عليه. هذا ما حصل في سوريا بالذات التي هرب معظم رجال الاعمال فيها الى لبنان في ستينات القرن الماضي وسبعيناته واقاموا فيه مشاريع في قطاعات مختلفة، بما في ذلك القطاع المصرفي والعقاري. ساعدت هذه المشاريع في ازدهار لبنان. ساهمت أيضا في تحويله الى جزيرة استقرار يلجأ اليها المستثمرون العرب والأجانب. بقي الامر على هذه الحال الى العام 1975 حين بدأت أوضاع لبنان تتدهور. ما بقي من لبنان هو النظام المصرفي الذي قاوم طويلا الوصاية السورية ثم الوصاية الإيرانية… وصولا الى التورط المباشر لـ»حزب الله» في الحرب السورية واستخدامه لبنان في الحرب التي يتولاها نظام آل الاسد على السوريين.
ما يحصل حاليا هو تحقيق لوحدة المسارين السوري واللبناني على قاعدة غياب الدولار، وهو غياب يجمع حاليا بين سوريا ولبنان اللذين صارا اقرب الى بعضهما بعضا اكثر من أي وقت، منذ ايّام الوحدة الاقتصادية، عندما كانت عملتهما واحدة وكان هناك مصرف سوريا ولبنان.
في ربيع العام 1990، قبل مغامرة صدّام حسين في الكويت وقبل انتخاب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية اللبنانية خلفا لرينيه معوّض، انعقدت في تونس الدورة الأخيرة لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية. كان على رأس الوفد اللبناني السفير سهيل شمّاس الأمين العام لوزارة الخارجية وقتذاك وكان الوفد السوري برئاسة وزير الخارجية فاروق الشرع.
فوجئ الوفد اللبناني، الذي كان هامش المناورة لديه ضيّقا بسبب الوضع الداخلي والفراغ الذي خلفه اغتيال رئيس الجمهورية رينيه معوّض، بما ورد في مسودّة مشروع القرار المتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي. ورد في نصّ المسودة ربط بين القرارين 242 و 425 الصادرين عن مجلس الامن، مع ما يعنيه ذلك من ربط بين الانسحاب الإسرائيلي من الجولان المحتل منذ العام 1967 ومن جنوب لبنان حيث كانت تحتل إسرائيل شريطا حدوديا منذ العام 1978 تاريخ صدور القرار 425.
كان واضحا ان الجانب السوري أراد استغلال الوضع الذي يعيش فيه لبنان في ظلّ وجود حكومتين فيه، احداهما في قصر بعبدا برئاسة ميشال عون وأخرى في بيروت برئاسة سليم الحص، لتمرير قرار يؤكّد وحدة المسارين.
لعب الشاذلي القليبي، رحمه الله، الأمين العام لجامعة الدول العربية في تلك المرحلة، وديبلوماسيون عرب، استنجد بهم الوفد اللبناني سرّا، جهودا للفصل بين المسارين اللبناني والسوري. صار لكلّ منهما بند خاص به. وضع الشاذلي القليبي وديبلوماسيون عرب حدّا لمناورة قام بها فاروق الشرع باسم النظام السوري الذي سعى الى جعل لبنان اسير تنفيذ القرار 242 الذي لم يرد حافظ الأسد تنفيذه في يوم من الايّام. فالجولان كان بالنسبة اليه ورقة يمكن استخدامها في المساومات الإقليمية. وهذا ما يفسّر جنون النظام السوري لدى الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان والسعي الى اختلاق قضيّة اسمها مزارع شبعا. هذه المزارع التي كان يسيطر عليها الجيش السوري لدى وقوعها تحت الاحتلال في 1967 والتي ينطبق عليها القرار 242.
بعد ثلاثين عاما توحّد المساران. وحّدهما «حزب الله». وحّدهما عمليا الدولار. على العكس من منطق التاريخ، اسقطت برلين الشرقية برلين الغربية، في حين ان المنطق كان يقول ان الغلبة يجب ان تكون لبرلين الغربية. هذا ما حدث على ارض الواقع، هذا ما يفترض ان يحصل اذا تخلّص لبنان يوما، قبل فوات الأوان، من الوصاية الإيرانية وانتصرت ثقافة الحياة على ثقافة الموت…