بين المُرتجى والواقع مسافة تحكمها معطيات وتوازنات تتداخل خارجياً وداخلياً. لذا، فإنّ رحيل الحكومة لا يخضع لرغبات طرف يفتّش عن انتصار وهمي يمحو خيبة خروجه مذلولاً سياسياً وشعبياً بعد انتفاضة 17 تشرين، إنّما يخضع لحسابات تتخطّى حدود الجغرافيا اللبنانية وترتبط بالنزاع الإقليمي الدولي.
هذا الواقع يفرض أنّ طبخة التغيير الحكومي لم تنضج بعد، لعدة أسباب تتعلق:
أولاً، بالنزاع الإيراني ـ الأميركي، وتوازياً بالنزاع بين «حزب الله» وواشنطن.
ثانياً، عدم توافر ظروف سياسية جديدة مخالفة للظروف التي حتّمت استقالة الرئيس سعد الحريري.
ثالثاً، ميثاقياً، غياب الشخصية السنّية «الانتحارية» القادرة راهناً على تحمّل عبء الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية، وعبء المواجهة مع المجتمعين العربي والدولي.
رابعاً، تشكيل حكومة تكون نموذجاً مطلوباً لتوازن وطني في مواجهة مشروع «حزب الله». ويعني أنّ أيّ تشكيل جديد يفرض أن يمرّ هذه المرّة عبر القنوات الأميركية، ووفق شروط قاسية حدّدتها واشنطن، وأساسها إبقاء «حزب الله» خارج السلطة، بما يعني التمهيد إلى إبعاده عن حلبة صنع القرار.
خامساً، تشكيل أيّ حكومة جديدة يجب أن يتناسق مع الشروط العربية والخليجية الجديدة والتي تتماهى شكلاً ومضموناً مع شروط الإدارة الأميركية.
سادساً، ربط فك الحصار الاقتصادي عن لبنان وتقديم أي مساعدات مالية بتطبيق هذه المعايير في التشكيل.
وكلّ هذا يتزامَن مع الرسائل التي تبعثها عودة المملكة العربية السعودية إلى الساحة اللبنانية، وبتنسيق سعودي ـ أميركي ـ فرنسي، مفادها أنّ واقعاً جديداً ينتظر لبنان، وما كان يُسمح به سابقاً لم يعد متوافراً اليوم.
إستناداً إلى هذه القراءة، من المُستبعد أن يقبل «حزب الله» بأيّ تغيير حكومي إرضاء لرغبات أيّ من حلفائه، قد يغيّر التوازنات الداخلية ويبعده عن «غرفة التحكم» بالقرار اللبناني، فالمسافة حتى الانتخابات الأميركية لم تعد بعيدة، والرهانات على حدوث تغيير في جوهر اللعبة في حال خسارة الجمهوريين القيادة الرئاسية في أميركا مستمرة، إلّا إذا أرادت طهران تقديم بعض أفعال حسن النيّة للأميركيين، وهو أمر أيضاً مستبعد نظراً للاختلافات أصلاً الموجودة بين المعسكرين «المتشدد» و»الاصلاحي» في إيران حول سُبل المواجهة والمفاوضات او عدمها مع الأميركيين. من هنا، فإنّ زيارة جبران باسيل إلى الرئيس نبيه بري لا ترجمة فعلية لها راهناً، وتقاطع أي مصلحة – إذا وجد – بين عين التينة والشالوحي بتغيير دياب لن يكون له مردود من دون موافقة «حزب الله»، والحديث عن عودة الحريري أو المجيء بحكومة سياسية سيكون أمراً متعذراً أمام التطورات الإقليمية والدولية والداخلية المتسارعة. أمّا الشارع فيبدو انه في حاجة الى استعادة قوته ليُعاود التأثير في مسار اللعبة.
بالتزامن، تتزايد تحذيرات المجتمع الدولي للبنان، وكان الأهم ما حذّر منه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان من الوصول إلى العنف في وقتٍ، ومنذ انطلاق انتفاضة 17 تشرين، تُحجم السلطة عن القيام بأيّ عمل يؤدي إلى المباشرة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. بل انّ ما يجري يبدو وكأنه عمل مُمنهج لتدمير المؤسسات اللبنانية، وتدمير القوانين والدستور، بسبب العناد والاستعصاء عن معالجة جذور المشكلات. إذ يكفي النظر إلى التداعيات السلبية التي يمكن لمسها يومياً لِما يجري من تدمير لمستوى عيش اللبنانيين ونوعيته. فكيف يمكن بعد الآن ان يكون للبنانيين حياة لائقة وبالحد الأدنى، فيما أزمة الدولار ترهق الدولة والشعب معاً؟ التلاعب المستمر، ووجود عدة أسواق مالية تتحكّم به إلّا مصرف لبنان، لا يمحوها كلام الحاكم عن انّ «حجم التداول في السوق السوداء لا يتجاوز 10 الى 15 %» بعدما بات الدولار مادة للتجارة لدى اللبنانيين وليس للصرف. وبالتالي، الحديث عن «وَهم» السوق السوداء قد يتحوّل غداً حقيقة.
ولم تقم الدولة بأيّ خطوات تعيد الثقة للبنانيين وثقة أصدقاء لبنان من العرب والعالم، فأتت التعيينات مخيّبة، إضافة إلى إحجام رئيس الجمهورية عن إصدار التشكيلات القضائية التي أقرّها وعاد وأكّد عليها مجلس القضاء الأعلى، وصولاً إلى القرار القضائي الأخير الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح، والذي يتخطى صلاحياته، وأتى خلافاً لكل المواثيق والقوانين والقواعد المختصة بالعلاقات الديبلوماسية التي تربط لبنان ببقية الدول، وأوحى بأنّ ثمة دوافع سياسية وراءه، ضارباً هيبة الدولة اللبنانية والقضاء.
وبالتالي، فإنّ حصاد الـ97 % الذي تحدث عنه دياب، لم يُثمر إلّا عناداً وعجزاً. لم يرسم منهجية جديدة، بل تكرّست أكثر عناوين المحاصصة، والتقاسم الحزبي والطائفي والمالي والإداري والقضائي، وزاد في الطين بلّة تَوجّه السلطة نحو النظام البوليسي لقمع الرأي والتعبير والحريات. وليس آخرها ما حصل مع السيّد علي الأمين، أو مع كيندا الخطيب والثوار الذين يُعتقلون تعسفياً، وسط الحديث المتكرر داخل مجلس الوزراء عن اقتراحات تُقدّم لقمع الثورة وإسكاتها.
قبل 4 سنوات، وفي إحدى الجلسات العامة لمجلس النواب، روى الرئيس فؤاد السنيورة طُرفة عن شخص كان يفتش عن شيء ثمين أضاعه ولكنه كان يفتّش عنه في غير المكان الذي أضاعه فيه. لأنّ المكان الذي أضاعه فيه كان معتماً، بينما المكان الذي كان يفتّش فيه كان مُضاء. وهذا يعني أنّ الشخص لن يجد الشيء الذي أضاعه ولن يجد مبتغاه. وهذه هي الحال في لبنان. من هنا، امام التخبّط الحاصل، وأمام الواقع التشاؤمي، لم يعد امام السلطة السياسية خيارات للخروج من المأزق. فـ»على الحكومة والعهد مسؤولية القيام بمبادرة إنقاذية، تبدأ بإعادة الثقة بالدولة اللبنانية، وهذا يعني أنّ هناك مجموعة من الأدوية على لبنان واللبنانيين أن يتناولوها والمداومة عليها، لاستعادة لبنان عافيته، وهي الأدوية المالية، والأدوية النقدية، والأدوية القطاعية، والأدوية الإدارية، والأدوية السياسية، كما يقول مرجع حكومي سابق لـ»الجمهورية».
وهنا دور رئيس الجمهورية والحكومة أن يبادرا معاً إلى بعث رسائل الى المجتمعين العربي والدولي تُظهر أنّ لبنان لديه الارادة والتصميم بأنه يسلك المسارات الاصلاحية، عبر سلسلة خطوات سريعة، منها:
1 – إتمام التشكيلات القضائية.
2 – تنفيذ القرارات الاصلاحية في شأن موضوع الكهرباء. والقوانين القطاعية التي صدرت قبل نحو 18 عاماً، وتتعلق إضافة إلى الكهرباء بالاتصالات والطيران المدني.
3 – إعادة الاعتبار للإدارة اللبنانية بترشيقها وزيادة فعاليتها وتحسين مستويات أدائها ونوعيته، ما يعني الالتزام بمعايير الكفاءة والجدارة والتنافسية في إيلاء المسؤوليات في إدارات الدولة. والتوقف عن تقاسم المراكز بما يوافق مصالح الأحزاب والطوائف ممّا يزيد من قبضتهم على الدولة بإداراتها ومؤسساتها.
4 – التزام سياسة النأي بالنفس. إذ على «حزب الله» مسؤولية كبيرة في هذا الإطار، وعليه أن يدرك حجم الأزمة التي وَرّط لبنان فيها، وأن يبادر إلى خطوات توقِف تدخّله في شؤون دول عربية وخليجية ودول العالم، إضافة إلى حسن السلوك مع هذه الدول.
5 – فرض السيطرة على المعابر الشرعية وغير الشرعية للَجم التهريب.
6 – إنطلاق حوار وطني محوره الاستراتيجية الدفاعية.
«كل هذه المسارات، متى تم البدء بها، ستكون كفيلة بإعطاء الاشارات الأولى على التغيير الايجابي. لذا، القرار اليوم لدى رئيس الجمهورية ميشال عون و»حزب الله» لإخراج لبنان من النفق»، كما يقول المرجع.