«سألتني سيدتي أين الطريق
وهل يُسأل عن البلل غريق؟»
(شاعر مغمور)
في مسرحية «نزل السرور» لزياد الرحباني، والتي عُرضت على أعتاب الحرب الأهلية اللبنانية، قدّم الرحباني ما يشبه الرؤيا للحرب المقبلة من خلال قيام عصابة فوضوية، يتكوّن أفرادها من «المعتّرين» الناقمين على الدولة والمجتمع، كل منهم لقضية شخصية لا علاقة لها بقضايا رفاقه، باحتلال فندق من الدرجة «الترسو» وأخذ نزلائه «المعتّرين» أيضاً رهائن.
في خضم هذه الأحداث، ينبري أحد النزلاء، وهو «مثقف» يساري، بطرح نظرية «إيديولوجية التعتير»، وهي تعتمد على أنّ الفرد المسحوق اجتماعياً ومادياً وثقافياً، هو ضرورة للحركة الثورية بمختلف أشكالها، فهو يحمل مخزوناً كبيراً من الحقد الناتج من التهميش، وفي الوقت نفسه، فإنّه قادر على التضحية بنفسه لأنّه لا يملك ما يخسره، فلا مال ولا مصالح ولا حياة هانئة.
هذا الواقع ينسحب على كل الحالات الثورية بمختلف توجّهاتها العقائدية، فقيادتها تكون عادة من الطبقات القادرة على التفكير والتخطيط وحبك المصطلحات الثورية، ولكن جمهورها، وبالتالي وقود زعامتها، يكون دائماً وأبداً الملايين من «المعتّرين» الرازحين تحت هيمنة «إيديولوجية التعتير».
في ذروة الحرب الكارثية على لبنان سنة 2006، زارني قادة من «حزب الله» في المنزل، ليعاتبوني على مواقفي تجاه حزبهم أثناء هذه الحرب، مما يتناقض مع «تاريخي» في مواجهة العدو الإسرائيلي، حسب أقوالهم.
عندها، وبكل محبة، شرحت لهم تداعيات مواجهة العدو الإسرائيلي، نيابة عن كل العرب وغير العرب، على لبنان وعلى مدى أربعة عقود، وكيف أنّ هذا الوضع حرمنا من النمو والازدهار وبالتالي البحبوحة والاستقرار التي يستحقها المواطن اللبناني.
فكان الجواب المفاجئ لأحدهم: «لقد دمّر العدو كل شيء، ولم يعد هناك شيء نخسره، لذلك فما علينا إلّا أن نكمل الى النهاية»… ثم قال: «ما همّكم أنتم (يعني السُنّة) فجماعتنا (أي الشيعة) هم الذين يموتون في هذه الحرب». هنا استوقفته وقلت: «أولاً، لقد أخطأت العنوان في طرحك، فالمواطن الذي نخسره لا يحسب تعداد الطائفة فيه، فهو إنسان أولاً ومواطن ثانياً، ومن ناحية أخرى، فلا أظن أنّ صواريخ العدو موجّهة طائفياً… ولكن ماذا عن الدمار وخسارة الفرص؟».
عندها انبرى أحدهما وقال: «الرئيس السنيورة اختصاصي بجلب المساعدات وسيتمكن من استدراج الجميع للمساعدة!».
لن أسترسل في سرد بقية الحديث، وما على القارئ إلاّ الاستنتاج.
الواقع هو أنّ الحالة «الثورية» العقائدية، تتفلّت من كل الضوابط، فتنقلب كل الموازين، فيصبح البناء السكني ملجأً، والطبقات العليا مراكز رصد وقنص، والسيارات دشماً والشوارع خطوط تماس، والموازنات فقط لتمويل «العسكر»، ويصبح جميع المواطنين مشاريع شهداء، فترتفع في السماء سحب الدخان … ويحلّ اليأس محل الأمل، فيهون الموت وتستمر الحالة الثورية.
فماذا عن اليوم؟ لقد استمعت إلى تسجيل صوتي منسوب الى من يُعتبر باحثاً سياسياً في «حزب الله» اسمه بلال اللقيس، يقوم بتوجيه رسالة الى المحازبين، وفيها كالعادة تشجيع على الصمود، وتأكيد أنّ قوة الحزب وداعميه توازي، لا بل تفوق قدرة أميركا وإسرائيل والسعودية ومن معها. وبالطبع، كما كل المنظومات المشابهة، فقد تمّ تزيين الكلام ببعض التعابير السياسية الخنفشارية والتعاويذ الأسطورية… يعني أنّ الكلام عن تسويات ما سيُقابل بمزيد من «الصمود»، في اعتبار أنّ التسوية اليوم غير مفيدة، طالما أنّ الرهينة لم تستغث بعد.
فما هو مخطّط «حزب الله»؟ وبالتالي ما هي رؤيا إيران اليوم حول الوضع؟
لا يظنّن أحد أنّ ما تستند إليه منظومة إيران هو احتياطي مادي، أي قدرات مادية لدعم نفسها ودعم أتباعها، إلّا بما ندر، ولو كان لديها لساعدت نفسها. لكن قدرات إيران على التضحية بحيوات أتباعها واسعة وجدّية وبالغة التأثير. وهذا الاحتياطي الكامن من الأرواح البشرية يشبه ما يخزّنه البعض من أدوات لا روح لها ليوم الشدّة. وببساطة، وبناءً على ما يقوله ويردّده قادة هذا المحور، فإنّ ثروته ومخزنه هما في عدد الأرواح التي يمكنه زهقها من أتباعه أولاً، ومن أعدائه ثانياً، في سبيل عزة وكرامة الولي الفقيه، ليذهب طبعاً مسلحاً إلى طاولة المفاوضات. ومن يريد استنكار كلامي فما عليه إلّا مراجعة تفاصيل الاتفاق النووي الأخير مع «الشيطان الأكبر».
لكن، قد يقول قائل، ما الذي سيستفيد منه مشروع الولي الفقيه من الجوع والفوضى في لبنان؟
ما يريده هذا المشروع هو استدراج حنان بعض الدول أمام مأساة اللبنانيين، ليأتي بعضهم الى التفاوض على الرهائن مع إيران، وعندما نقول رهائن فيعني لبنان وشعبه. وطالما أنّ إسرائيل لا حاجة لها بحركشة وكر الدبابير اللبنانية، فإنّ موقف الحزب اليوم في السلطة وعناده المرضي، يقوم بواجب إسرائيل عنها بتدمير البلد، لعلمها أنّ ما يسعى إليه الحزب في النهاية هو إيجاد موقع قدم للولي الفقيه في لبنان، تعترف به إسرائيل كأمر واقع يمكن التسوية على أساسه.
الرهان عند الحزب اليوم، على رغم من كل الصعوبات، هو أنّ وصول اللبنانيين الرهائن عنده إلى مزيد من الفوضى والجوع، سيدفعهم الى الاستغاثة بمن سيأتي ويفتح باب التفاوض مع إيران، ليس فقط بالنسبة الى لبنان، بل الى سوريا والعراق، وربما اليمن. يعني أنّ الحزب الذي يملك احتياطياً أكبر من بقية اللبنانيين، قادر على الصمود لبضعة أشهر تعلو فيها صرخات الناس للاستغاثة، أو ربما يغرق بعضهم في البحر، مثلهم مثل من سبقهم الى السعي للهروب من الدول التي حلّت عليها لعنة الولي الفقيه. وهكذا تتحول مأساة اللبنانيين قضية دولية، وأوروبية خصوصاً، وبالتالي سيهرع بعض «الحناين» إلى إيران للبحث عن حلّ.
ما هو غير واضح اليوم، هو كيف سيكون هذا الحل في ظلّ كون العالم بأجمعه يعيش أزمات لا حلّ لها إلاّ الزمن. الخوف هو أن يفوت الزمن على إمكانية الحل ويتحول أهلنا، بمختلف طوائفهم، إلى احتياطي من مزيد من الأرواح المزهوقة فداء لأسطورة الولي الفقيه.
في فترة الثمانينات من القرن الماضي، كان لبنان واقعاً تحت واقع التنكيل المتواصل للحرب الأهلية، وكان المواطن منا يائساً إلى حدّ الانتحار. بدأ الحديث حينها عن رجل أعمال آتٍ من السعودية يقدّم مساعدات للطلاب لإكمال دراستهم الجامعية، ويحول خطوط التماس إلى شوارع. وبدأ الحديث في أوساط «فلاسفة التعتير» من يمين ويسار ومن مؤمنين وملحدين، عن مشروع هذا الرجل المشبوه لإيقاف «الحالة الثورية» في لبنان، عن طريق حرمان الشباب من «الإستشهاد» في سبيل الأهداف العقائدية العظيمة، وعن طريق إعادة معالم المدنية والجمال إلى الشوارع والأبنية، لتصعيب مهمة المناضلين في استعمالها في القتال.
بعد «اتفاق الطائف»، استمر مَن تبقّى من فلاسفة «التعتير» في معاداتهم لمشروع بناء الدولة وإعادة رسم معالمها العمرانية والإقتصادية، فهذا المشروع ينعكس مباشرة على حياة الأفراد وينتشلهم من واقع «التعتير»، فيبتعدون تلقائياً عن الإستقطاب الثوري، ما يعني عملياً سحب لبنان من واقع الإستعمال السهل كساحة مفتوحة للقتال. هذا الرجل اغتاله مشروع الظلام الدامس والجوع الكافر.
خاتمة: «يجب ان نعمل على إنضاج الحالة الجهادية، فعندما يكون في لبنان مليون جائع، فإنّ مهمتنا لا تكون في تأمين الخبز، بل بتوفير الحالة الجهادية حتى تحمل الأمة السيف في وجه كل القيادات السياسية». (حسن نصر الله ـ نُشر في 27/1/1986)