إلى الحبيبين عماد مغنية ومصطفى بدر الدين
إنه 12 تموز، التاريخ الذي يريد البعض عدم تذكّره، أو حتى شطبه من روزنامة اللبنانيين والعرب. في لبنان كما في كيان العدو، كما في كل قلوب وعقول من أصابتهم الهزيمة في ذلك التاريخ.
هو 12 تموز، موعد لتغيير لا يزال كثيرون لم يدركوا نتائجه وأبعاده بعد. وبيننا حاقدون يعتقدون أنه تاريخ عابر لن تبقى منه إلا صورة كلفة الصمود الأسطوري للمقاومة في لبنان. هو موعد فتحت معه الآفاق أمام مستوى متقدّم من المواجهة بين أشرار العالم بقيادة العدو الأميركي، وبين أخياره الذين لا يزالون يدفعون ثمن صمودهم وتصدّيهم وانتصاراتهم على هذا العدو. وهو ثمن صار من جبلة ناس المقاومة وأهلها. لكنه يبقى مجرد تضحيات كبيرة سوف تظلّ عنواناً لكل ما هو أجمل في تاريخنا المعاصر.
بَعد مرور 14 عاماً على المواجهة الأسطورية، صار هناك بُعد آخر للحديث عن 12 تموز اليوم. بُعد متصل عميقاً بكل النقاش اللبناني – اللبناني، واللبناني مع الخارج، بشأن مستقبل هذه البلاد. وكما في كل مرة نعمد الى دفن رؤوسنا في الرمال، ونلقي على الخارج وحده مسؤولية أزماتنا، ها نحن اليوم نتجاهل حقيقة أن المشكلات التي تواجه بلدنا اليوم إنما هي، بالدرجة الأولى، نتيجة أفعالنا نحن، ونتيجة معاركنا المستمرة حول كثير من الأمور المحقة. لكن المشكلة ليست في حق كل طرف بأن يرسم أهدافه، بل في كون بعض القوى اللبنانية تريد تكرار تجاربها الأليمة غير آبهة بما تبقى من دماء في عروق ناسها وأهل بلدها.
اليوم، صار لزاماً علينا عدم الهروب من مسؤولية النقاش بحجة الخشية من الفتنة، ومن الواجب أيضاً، مساجلة أصحاب الأفكار المجنونة التي تريد إعادة لبنان الى عصر ما قبل انتصارات المقاومة على العدوّين الأميركي والإسرائيلي. وهو سجال لا يمكن أن يقف على خاطر أحد، بمعزل عن موقعه وتمثيله وشأنه عند الناس. وهو سجال يجب أن يكون واضحاً وصريحاً، مهما كان قاسياً عند «الفنّاصين» من أبناء هذا البلد، الذين لا يزالون يعيشون على كذبة بعناوين كثيرة، من العيش المشترك الى لبنان الرسالة، إلى الجسر الواصل بين الشرق والغرب، الى الفرادة والنموذج في التخالط بين الثقافات والأديان وخلافه من ألاعيب اللبنانويين إياهم..
في ذكرى 12 تموز، تنطلق الحملات الدعائية لجماعات لبنانية تحنّ الى زمن لبنان الذي صنعه الاستعمار الغربي. الاستعمار الذي اقتحم بلادنا وسرق ثرواتها وفرض أفكاره وعلومه وعاداته وأسماءه وقوانينه علينا بحجة تطويرنا وإخراجنا من تخلّفنا. في هذا السياق، تنطلق احتفالات وحملات بمناسبة «مئوية لبنان الكبير». يفعلون ذلك وهم يحلمون بعودة الإمارة التي خلقها الاستعمار ثم أبقاها تحت حراسته، وعندما غادر سلّمها بقية البلاد. ولبنان الكبير هذا، يشكل بالنسبة إلى الذين يحتفلون به اليوم القلعة التي يحتمون خلفها منعاً لأي تواصل مع المحيط، علماً بأن غالبية، نعم غالبية، الذين يحتفلون اليوم بلبنان الكبير، وهم من طوائف وملل كثيرة ومختلفة، إنما ينشدون اليوم عودة الاستعمار الغربي الى لبنان. هؤلاء يفضلون أن تعود فرنسا لتحتل لبنان وتحكمه إذا كان البديل جهداً لبناء دولة مستقلة أصلها وفرعها وبعدها عربي بامتياز. وهؤلاء هم من لجأوا الى العدوّين الأميركي والإسرائيلي منذ قيام كيان العدو حتى هزيمته في لبنان، واحتموا بحرابه بحجة الخوف من شريكهم اللبناني أو العربي، وهؤلاء هم من يعملون اليوم في خدمة الغرب الذي يحاصر لبنان ليعاقب من صمد من أهله وانتصر على إسرائيل، وأفشل مشاريع السيطرة الأميركية والأوروبية على بلادنا. وهؤلاء هم من يعيدون اليوم نشر ثقافة الاختلاف والقول بأنه لا يمكن للجماعات اللبنانية أن تتعايش نظراً إلى اختلاف الثقافة والذوق والعرق والدين والتطلع. وهؤلاء يرون أنهم أقرب الى المستعمر نفسه من إخوتهم في هذا البلد، وهؤلاء – للأسف – هم من يريدون محو 12 تموز من روزنامة هذا البلد. وهؤلاء يريدون إقناع الناس بأن المقاومة هي المسؤولة عن خراب البلاد، وأن قوة المقاومة هي السبب في التعثر الاقتصادي وتعب الناس. وهؤلاء هم أنفسهم الذين يحتلّون اليوم مواقع في أعلى هرم المرجعيات الطائفية والدينية والسياسية والحزبية والاقتصادية. وهؤلاء هم الذين سرقوا من اللبنانيين قوتهم، تارة باسم الرب، وطوراً باسم الحرص على الأقليات المقيتة. وهؤلاء هم الذين يسترضون أوروبا الذليلة أمام الأميركيين، ويحرصون على تحية أمراء الدم والدموع والموت في الجزيرة العربية الذين يبيعون فلسطين مرة جديدة، ويريدون لنا الاقتناع بأن لا مجال لعلم أو طاقة أو تقدم من دون الرضوخ لمشيئة حاكم العالم اليوم..
أغلبية المحتفلين بمئويّة لبنان الكبير هم أنفسهم الذين استعانوا بكل مجرمي العالم لإبعاد بلدنا عن هويّته العربية، وهم الذاهبون إلى حتفهم غير مبتسمين
ما يردده البطريرك بشارة الراعي منذ أسبوعين، ويهلّل له كل جماعة أميركا والسعودية وأعداء المقاومة والعروبة، هو ما يُراد منه إقحام جماعات لبنانية، مرة جديدة، في أتون حرب الاستعمار على لبنان الجديد والكبير أيضاً، لكنه لبنان الذي أعلنت قيامته في 25 أيار عام 2000، وعُمّد بالدماء في 12 تموز 2006!
لتكن الأمور واضحة، بلا لفّ ولا دوران، وبلا كذب السياسيين ودجلهم على اختلاف صنوفهم. لم يعد ممكناً مجاراة الذين يتحدثون عن حرية واستقلال، لكنهم يصمتون إزاء ما تقوم به أميركا والسعودية ومعهما إسرائيل في لبنان. وبرغم أن هؤلاء، من جميع التشكيلات العقائدية والسياسية والطائفية، إلا أن جلّهم يعتقد بأن حيلة التعميم في تحميل المسؤولية عن الخراب، ستوصلهم الى السلطة بديلاً من الطبقة العفنة الحاكمة اليوم. وهؤلاء الذين يحصلون على شهادة امتياز في الانتهازية، لن يكون نصيبهم سوى المكان الأسوأ من دروس الحياة.
أما العملاء، الذين يعيشون على ذكريات مريضة، ويعتقدون أن كذبة الاستعمار قابلة للعيش من جديد، وهم يقبلون أداء دور الدمية مرة جديدة، فهم لا يفعلون شيئاً غير إعادة ترتيب انتحارهم لمرة ثانية وثالثة بعد المئة، قبل أن يتحولوا الى أوراق صفراء في كتب التاريخ. وإذا كانوا يراهنون على أن أهل المقاومة ليسوا في وارد الاستجابة لمتطلبات الفتنة، فيستغلون الصمت ويعيثون فساداً في الأرض، فهم أيضاً يعيشون على وهم قاتل، وسيفيقون منه بأسرع مما سبق، وسيعيشون لحظة الاكتئاب التي ستتجدد قبالة وجوههم عند كل 12 تموز من كل عام!
وفي 12 تموز، نعود الى الذين صنعوا مجدنا الذي يعلو كل مجد مزيف، الى أولئك الذين قدّموا كل ما عندهم من أجل أن نعيش نحن أفضل لحظات حياتنا بكل صعوباتها وقسوتها، الى الذين يسكنون أمكنة في نفوسنا وقلوبنا لا تمحوها كل عواصف الأرض ولا تغطيها كل أمواج البحر، الى قادة وأحباء سيبقون هم أبطالنا الذين نرسم وجوههم في عيون من نحب ومن نتمنى له الأفضل… نعود الى الشهداء الذين يملكون حصراً اسم وتاريخ وعنوان المقاومة الأكثر نبلاً في هذا التاريخ.