ليست قضية قاسم تاج الدين الذي اعتقلته السلطات الأميركية ثم أطلقت سراحه بعد اتهامه بتمويل “حزب الله” إلا فصلاً من فصول العلاقة العدائية الطويلة بين واشنطن و”الحزب” وإيران من ورائه. كأنّ هناك عملية تصفية حساب دائمة ومستمرة انتقلت فيها المبادرة إلى الأميركيين. ذلك أن تاج الدين ليس إلّا واحداً من بين رهائن “حزب الله” الكثر اليوم في السجون الأميركية بعدما كانت اللعبة معكوسة في الثمانينات عندما كانت واشنطن تسعى لإطلاق رهائنها المخطوفين في لبنان.
ملف الصراع بين واشنطن و”الحزب” وإيران مفتوح على مصراعيه ولا يبدو أنّ الإدارة الأميركية في وارد تخفيف حدّة الضغط الكبير الذي تمارسه عليهما، وكأنّ هذه المسألة باتت سياسة أميركية ثابتة وهدفاً لا يمكن تغييره قبل إصابته وتعطيله. وفي ظلّ هذه السياسية الأميركية لا يبدو أن إيران و”الحزب” في وارد الإستسلام أو التسليم بالمطالب الأميركية أو التراجع. إنّها حرب شاملة تصيب شظاياها وقذائفها لبنان وتُستخدم فيها كلّ أنواع الأسلحة من العقوبات إلى الإعتقالات.
تهديد وتحذير
في 15 تموز الحالي استهلّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مؤتمراً صحافياً في وزارة الخارجية بالقول: “… يصادف هذا الأسبوع الذكرى السنوية لهجومين إرهابيين شنّهما “حزب الله” المدعوم من إيران: تفجير في العام 1994 لمركز تابع للجالية اليهودية في الأرجنتين هو المركز الثنائي الإسرائيلي – الأرجنتيني (AMIA) في بوينس آيرس، والتفجير الانتحاري الذي استهدف السيّاح الإسرائيليين في بلغاريا في العام 2012. نحن مستمرّون في ممارسة أقصى ضغط على طهران وندعو جميع الدول المسؤولة إلى الانضمام إلينا في ذلك”.
قبل ذلك بيوم واحد كان قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي يعلن في مؤتمر صحافي أيضاً ردّاً على سؤال حول زيارته لبنان: “لا شك في أن محور فرصتي كان لقاء قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون وكان اللقاء جيّداً جدّاً، واستطعت أن أعيد التأكيد على التزامنا بدعم الجيش اللبناني كتعبير عن الدفاع الوطني عن لبنان وكذراع للحكومة. نحن نعتبر أنّ الجيش اللبناني يمثِّل فرصة هائلة للتوصّل إلى حل لمتطلبات الدفاع بالنسبة إلى الحكومة هناك. لا يزال “حزب الله” يمثّل مشكلة ومسألة عالقة، ونحن ندرك وجوده هناك. أعمى من يقول إنّه لا يدرك أنّه موجود هناك. ونحن ندرك أنّ سكان لبنان مضطرون لتقديم مساومات نتيجة لذلك، ولكنّني أعتقد أنه سيكون من الخطأ الكبير أن يحاول “حزب الله” تنفيذ عمليات ضد إسرائيل. لا أرى أي نهاية جيدة لأي محاولة مماثلة”.
مسلسل من الماضي
مع وصول ماكينزي إلى بيروت صباح الثامن من تموز تم تنظيم تظاهرة مؤيّدة لـ”حزب الله” على طريق المطار رفضاً لزيارته، اعتقاداً أنّه سيزور المكان الذي كان في العام 1983 مقراً للمارينز وتمّ تفجيره في 23 تشرين الثاني من ذلك العام. في الواقع لم يكن الإعتراض على هذا الهدف الذي لم يكن مدرجاً في جدول لقاءاته، إنّما على الزيارة بحدّ ذاتها والتي كانت المحطّة الأساسية فيها لقاءه مع قائد الجيش العماد جوزف عون وتأكيده استمرار الدعم الأميركي للمؤسّسة العسكرية، وانتقاده الدور الذي يقوم به “حزب الله” في لبنان.
عندما تحدّث وزير خارجية أميركا بومبيو عن تفجير بوينس آيرس في الأرجنتين في العام 1994 وعن عملية بلغاريا في العام 2012، لم يكن يتجاهل كلّ مسلسل التفجيرات والعمليات الأمنية وخطف الرهائن الأميركيين التي نفّذها “حزب الله”، والتي تحفظ واشنطن تواريخها جيّداً ولا تنفكّ تذكِّر بأنّها لن تتخلّى عن محاسبة ومعاقبة من قام بها. على مدى أعوام نجح “حزب الله” في تحقيق إصابات في الخاصرة الأميركية من دون أن تكون هناك لدى واشنطن القدرة على الردّ عليه، ولكن يبدو أنّها اليوم مصمِّمة أكثر من أيّ وقت على الحسم بينما يبدو “الحزب” في المقابل وكأنّه فقد القدرة على الردّ أو على حماية نفسه، وكأنّ اللعبة باتت بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت.
في 24 كانون الثاني 1987 الساعة الخامسة بعد الظهر دخل أربعة مسلحين حرم كلّية بيروت الجامعية في بيروت. كانوا يرتدون بزّات مرقّطة ويعتمرون قبّعات حمراً ويستقلّون سيارة جيب باترول رمادية مثل رجال قوى الأمن الداخلي. أبلغوا رجال الحرس أنّهم من قوى الأمن وأنّهم مكلّفون حماية أربعة أساتذة أميركيين يعملون في الكليّة وطلبوا أن يدلّوهم على أمكنة وجودهم. قال لهم الحرّاس إنّهم غير موجودين. ذهبوا وعادوا بعد ساعتين وطلبوا استدعاء الأساتذة الأربعة. عندما حضروا شهر عليهم المسلحون أسلحتهم ونقلوهم إلى جهة مجهولة. فوراً انتشر الخبر: خطف أربعة أساتذة أميركيين في بيروت. بعد هذه العملية أغلقت واشنطن سفارتها في بيروت وطلب الرئيس الأميركي رونالد ريغن من الأميركيين مغادرة لبنان مؤكداً: “لن نقدم تنازلات للإرهابين”. في اليوم نفسه أعلنت ألمانيا الغربية أيضاً إقفال سفارتها في بيروت الغربية ونقلها إلى جونيه.
ليس غريباً أن تضع ألمانيا في هذه الأيام “حزب الله” على لائحة الإرهاب وتعتبره منظمة إرهابية. كانت مجموعة تابعة لـ”الحزب” قد خطفت طائرة تي دبليو الأميركية في 14 حزيران 1985 وتمّ قتل راكب أميركي على متنها، ولم تنته العملية إلّا بعد أيام وبعد اتفاق غير معلن حول تبادل الرهائن والإفراج عن عدد من المعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين في السجون الإسرائيلية. بعد عامين، في 13 كانون الثاني 1987 اعتقلت السلطات الألمانية محمد علي حماده أحد منفذي عملية خطف الطائرة الأميركية ثم أوقفت شقيقاً له. ردّ “حزب الله” بخطف عدد من الرهائن الألمان في بيروت لمنع ألمانيا من تسليم حماده إلى واشنطن التي طالبت به. نجحت عمليات “الحزب”. حوكم حماده في ألمانيا وأمضى عقوبته فيها وعاد إلى لبنان ولم تتمكّن واشنطن من القبض عليه وبقي الملف مفتوحاً.
في السجن الأميركي
في 17 آذار 2017 عندما وصل قاسم تاج الدين إلى مطار محمد الخامس في الدار البيضاء في المغرب ليستقلّ طائرة أخرى عائداً إلى لبنان كانت السلطات المغربية في انتظاره. تمّ توقيفه. لم يستطع “حزب الله” منع المغرب من تسليمه إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث تمّت محاكمته بتهمة تمويل “حزب الله” ودعم الإرهاب. قبل ذلك في 15 أيار 2014 أوقفت السلطات التشيكية علي فياض المتّهم أيضاً بتمويل “الحزب” وبعمليات تبييض أموال وبالتآمر لقتل ضباط وموظفين في الولايات المتحدة، وحيازة ونقل صواريخ مضادة للطائرات وتقديم دعم مالي لمنظمة إرهابية. في منتصف تمّوز تمّ خطف خمسة تشيكيين في لبنان. حذر “حزب الله” تشيكيا فامتنعت عن تسليم فياض إلى واشنطن ثمّ تمّ إطلاق سراحه بعد إطلاق التشيكيين الخمسة. ولكن مسلسل توقيف السلطات الأميركية لعدد من الناشطين الداعمين لـ”حزب الله” والتابعين له لم يتوقف خصوصاً في عدد من دول أميركا اللاتينية وفي الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
الفاخوري بين زكّا وتاج الدين
إعتقال اللبناني الأميركي نزار زكّا في طهران في 18 أيلول 2015 تزامن مع توقيف علي كوراني المرة الأولى في واشنطن، قبل أن يعاد اعتقاله في أوّل حزيران 2018 بتهمة دعم “حزب الله” حيث لا يزال في السجن. عندما تمّ الإفراج عن زكّا في 11 حزيران الماضي قيل إنّ العملية مرتبطة بصفقة تشمل إطلاق تاج الدين. كان مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم قد لعب دورا بارزاً في هذه العملية ورافق زكا من طهران إلى بيروت وقيل إنه كان زار تاج الدين في سجنه الأميركي.
عندما تمّ توقيف عامر الفاخوري في بيروت في أيلول 2019 بعد الإفراج عن زكّا قيل أيضاً إن توقيفه يصبّ في مصلحة إتمام عملية تبادل تشمل تاج الدين. وعندما تمّت تبرئة الفاخوري في المحكمة العسكرية وتمّ تسفيره من لبنان عبر طوّافة حطّت في السفارة الأميركية في عوكر، قبل أن يتمّ إقفال مطار بيروت بسبب جائحة كورونا، تواترت المعلومات حول إنجاز هذه الصفقة التي ترجمت من خلال تخفيض مدة عقوبة السجن التي كان حُكِم بها على تاج الدين، فتمّ إطلاق سراحه بحجّة الخوف من إصابته بالكورونا ليعود بعدها إلى لبنان في 8 تموز الحالي على متن طائرة خاصة، بعدما كان عقد صفقة خلال محاكمته مع وزارة العدل الأميركية تنازل من خلالها عن خمسين مليون دولار كما ذكرت المعلومات من داخل أميركا.
بحكم وضعية تاج الدين يمكن اعتبار أن بقاءه في السجن الأميركي ما عاد له أي مردود أو نفع ولذلك تمّ التخلّي عنه. وهو لن يكون خاتمة الملفات المفتوحة بين واشنطن وإيران و”حزب الله” اللذين تحوّلا من الهجوم إلى الدفاع. منذ اغتيال عماد مغنيّة في سوريا قبل 12 عاماً هدّد “الحزب” بأنّه سيردّ. ولكنّه لم ينجح بعد. ومنذ اغتيال اللواء قاسم سليماني في العراق تكرّر التهديد بالردّ وبطرد الأميركيين من المنطقة، ولكنّ الأميركيين يستمرّون في الضغط وفي الحصار وفي العقوبات وفي الهجوم الذي عبّر عنه وزير الخارجية بومبيو والجنرال ماكينزي ولا يبدو أن واشنطن ستتراجع. فماذا سيفعل “الحزب”؟