منذ دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى اعتماد الحياد، برزت مواقف جهات داخلية وخارجية عدة مؤيدة لهذا الطرح وساعية الى تحقيقه. وفي حين يُعتبر «حزب الله» الطرف الأساس المعني بهذه الدعوة إذ إنّه يخرق الحياد بانخراطه في «المحور الإيراني»، التزم «الحزب» الصمت ولم يصدر أيّ موقف رسمي عنه، إن على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله أو عن أيٍّ من مسؤوليه. وأتى التعليق الأوّل على طرح الراعي الحياد على لسان رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، الذي اكتفى بالقول بعد زيارته رئيس مجلس النواب نبيه بري أمس: «إطّلعنا على هذا الطرح ونتابع ردود الفعل».
في مرحلة يفقد لبنان مقومات الصمود بنحوٍ دراماتكي ويتراجع موقعه ودوره في ظلّ أزمة متعددة الأضلع والأسباب تهدّد كيانه، إذ إنّها تزعزع الدولة وتضرب معظم القطاعات وغالبية فئات المجتمعات في البلد، بالموازاة مع ضغوط خارجية وشروط لِمد يد المساعدة تراوح بين المطالبة بتحقيق إصلاحات محددة وكسر «هيمنة حزب الله»، خرقَ الراعي المراوحة في المكان نفسه بدعوته الى إعلان حياد لبنان «بدءاً من موقف واحد من اللبنانيين جميعاً للوصول الى قرار من مجلس الامن والامم المتحدة بأنّ للبنان نظاماً حيادياً فاعلاً يجب ان تحترمه كلّ الدول، ويكون دولة قوية بمؤسساتها وجيشها وتدافع عن نفسها من أيّ عدوان خارجي».
شيعيّاً، أتى الرد على دعوة الراعي الى الحياد من رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان والمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان. فحذّر الأوّل من «تضييع بوصلة المصلحة الوطنية والأخلاقية في ما يتعلّق بموقع لبنان وطريقة إنقاذه وسط هذه الأعاصير والهجمة الدولية والإقليمية على تمزيقه… وصولاً الى الدعوة الى الفَدرلة وتحميل المقاومة وزر الأزمة الاقتصادية والمعيشية وطرح حياد لبنان مخرجاً للأزمات الحالية». ورأى أنّ «الحياد بمنطق النبي محمد والسيّد المسيح يعني أن نَنحاز للحق… وأن نلتزم قضايا المظلومين شعوباً وكيانات أينما كانوا بعيداً من أسماء الكيانات والديانات… والحياد يضعنا في قلب المسؤولية التاريخية لمظلومي المنطقة والعالم…».
أمّا الشيخ أحمد قبلان فذهب الى أبعد من الإعلان عن رفض طرح الحياد، ولوّح في تصريح أمس الأول بورقة «الأكثرية»، وقال: «على البعض أن يدرك حقيقة أننا كشيعة أكثرية مكوّنة في هذا الوطن بل نحن مكوّن تاريخي للبنان، ثم الشريك الأول والرئيس لكلّ مَن طرأ عليه… وفضلاً عن كوننا أكثرية نضال وكفاح وصمود… كنّا وما زلنا ولن نقبل بأيّ رشوة أو تهديد أو صفقة أو لقاء عنوانه بيع البلد أو تقديمه هدية سياسية تحت أيّ اسم كان».
وإذ شدّد على أنّ «زمن عودة المارد الى القمقم صار في خبر كان»، أعلن أنّ «الحقيقة الوحيدة التي نؤمن بها، هي: لبنان بلد لأهله وناسه وجميع مكوّنيه، وهم عائلة وطنية واحدة، لكنّه بلد مقاوم لا يقبل أن يكون فريسة للصهاينة أو الأميركيين أو أقنعتهم… ولم ينفعنا في يوم من الأيام مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، خصوصاً عندما كنا نُقتل أمام أعينهم وأعينكم، فلا تتكلفوا العناء في الذهاب والإياب، فلن نكون إلا تحت خيمة وطننا وعباءته…».
على رغم هذين الموقفين الشيعيين، يلتزم المسؤولون في «حزب الله» قرار عدم الرد أو التعليق على طرح الراعي حتى الآن، إنطلاقاً من أنّ «أفضل طريقة للرد هي عدم الرد، وأنّ الموقف يظهر بالفعل وليس بالكلام». وتستعير مصادر مُطّلعة عبارة بري :»أبتظبَطش»، تعليقاً على طرح الحياد، إذ إنّ موقع الحزب في صلب محور معيّن ظاهر وعلني ولا يحتاج الى إعلان موقف. وتكتفي مصادر قريبة من «الحزب» بالقول: «مثلما هناك خلاف على المقاومة هناك خلاف على الحياد، و»حزب الله» لم يدّعِ يوماً أنّ موقفه يحوز على موافقة اللبنانيين جميعاً، لكنه لا يُسيطر على القرار اللبناني». وتجزم أن لا مانع لدى «حزب الله» من لقاء الراعي أو محاورته، وهو كان في الفترة الماضية حريصاً جداً على علاقة طيّبة ومستقرة مع الراعي، وكانت قنوات التواصل معه مفتوحة.
إعلاميّاً، يرفض «حزب الله» الخوض في السجال حول طرح الحياد، ويعتبر أنّ كلام رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ينبع من موقعه ودوره، ولا يُملي عليه أحد أيّ موقف، بل هو يقول اقتناعاته ويعبّر بالطريقة التي يراها مناسبة. وفي حين يعتبر البعض أنّ انخراط «حزب الله» في المحور الإيراني والنزاعات في المنطقة هو السبب الرئيس لعزلة لبنان وأزماته، وانطلاقاً من ذلك يجب على لبنان اعتماد الحياد ليعود صلة وصل بين الشرق والغرب وتعود أيّام الإزدهار والنمو، قال رعد أمس إنّ «أسباب الأزمة معروفة على المستوى الداخلي، وهناك أسباب أخرى تتصل بحصار مفروض على لبنان من جهات خارجية معروفة داعمة للمشاريع الاسرائيلية، ووحدتنا الاساس للتصدي لها».
الخلفية السياسية التي تشكّل منطلقاً لمواقف «الحزب» حسب ما تشرحها مصادر مؤيّدة له، هي أنّ «حزب الله» يؤمن بأنّ كلّ الموضوعات الإشكالية يجب أن تُعالج بالحوار والإتصال بين اللبنانيين، إلّا أنّ هذه المرحلة ليست مرحلة فتح الملفات المُعقدة وتعميق الإنقسامات، بل مرحلة التِمام اللبنانيين بعضهم على بعض ومعالجة الأزمة الإقتصادية، وحماية الحكومة وفتح الأبواب أمامها لكي تكون قادرة على معالجة الأزمة الإقتصادية – الإجتماعية، فالملفات الأخرى هي محل خلاف بين اللبنانيين». وإذ تسأل: «هل هذه مرحلة نَبش هذه الملفات الخلافية في وقت تُمارَس أعلى الضغوط خارجياً؟»، تعتبر أنّ «المواقف التي يطرحها البعض من القضايا الخلافية والانقسامية وفي غياب فرصة إمكانية البَت بها، قد تتحوّل ذريعة للخارج على المستوى السياسي لإكمال الضغط على البلد. لذلك، يجب الأخذ في الاعتبار طبيعة اللحظة وتعقيداتها».
وقد يأتي موقف «الحزب» الرسمي من طرح الراعي عبر بيان بعد اجتماع كتلة «الوفاء للمقاومة» اليوم، أو خلال اجتماع الراعي بـ»الحزب» إذا حصل أو عبر إطلالة لنصرالله، أو قد يأتي الرد الفعلي عندما يأخذ الحياد منحى أوسع وجدياً. وفي حين أنّ كلّ الاحتمالات واردة إذ إنّ «الحياد» يُطاول سلاح «حزب الله» ودوره وموقعه إقليمياً، ويأتي طرحه من أعلى مرجعية مسيحية – مارونية ويُسوّق في الخارج بدءاً من الفاتيكان، يقول مؤيّدون لطرح الحياد إنّ موقف «حزب الله» معروف ولا يحتاج الى أيّ تصريح، إلّا أنّ دعوة الراعي كسرت «تابو الخوف من السلاح» وتُشكّل قاعدة انطلاق لتحرير البلد وإعادته الى مفهوم الدولة والى موقعه، إذ قد يؤدّي التفاف كثيرين من اللبنانيين ومن مختلف الطوائف حول دعوة الراعي هذه الى تحقيق هدف الحياد، مثلما نجح سلفه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وعبر التفاف لبناني كبير من تحقيق «الاستقلال الثاني» وإخراج الجيش السوري من لبنان بعد سنوات طويلة من النضال.