«حزب الله» ليس في وارد التخلي عن «ورقة استراتيجية» مع تلاشي فرص الانفراج الإيراني – الأميركي
لا الزيارة الجسدية لوزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، ولا تلك الافتراضية للوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط جايمس كليفرلي إلى لبنان، من شأنهما أن تُغيّرا في مسار الأزمة الراهنة المفتوحة على مزيد من التعقيدات المالية – الاقتصادية وانعكاساتها على الأوضاع الاجتماعية والأمنية وسط انسداد الأفق السياسي داخلياً وخارجياً في انتظار استحقاق انتخابات الرئاسة الأميركية.
فعلى بُعد مئة يوم من موعد الانتخابات في الثالث من تشرين الثاني المقبل، تتلاشى احتمالات الانفراج في الصراع الأميركي – الإيراني، بما يجعل الأشهر الثلاثة المقبلة شديدة الحساسية والتصعيد في الإقليم، ومفتوحة على تحركات كبيرة ومفصلية ستترك بصماتها المستقبلية لسنوات آتية، وربما لعقود.
من هنا، فإن الانتظار هو السمة الغالبة التي تبني عليها مختلف الأطراف حساباتها. لكن المعضلة تكمن في أن ثمن الانتظار الداخلي بات مكلفاً جداً، ونتائجه تدميرية مع الاقتناع السائد بعجز العهد والحكومة والقيمين عليها عن تحقيق اختراق فعلي في جدار المأزق اللبناني، في ظل الشلل الذي يُصيب المنظومة الحاكمة نتيجة الصراع داخلها، رغم انتمائها إلى فريق سياسي واحد.
التحرّك الفرنسي يحظى بدعم ألمانيا من زاوية عدم ترك لبنان لمصير الانهيار
فبعد أشهر على إعلان الحكومة لخطتها للإصلاح المالي والاقتصادي، والتي تولت إعدادها شركة «لازارد» الفرنسية، ولعب المدير المالي آلان بيفاني دوراً أساسياً في صياغتها وإخراجها إلى النور، وذهبت على أساسها للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، سقط المفاوض اللبناني ذو التوجهات المتعددة في فخ أرقام الدين وكيفية توزيعها. ولا يزال غارقاً وعالقاً فيها مع الخلاف حول تحديد حجم الخسائر المالية بين الفريق الحكومي من جهة، ومصرف لبنان والمصارف من جهة ثانية، وغياب مقاربة موحّدة لكيفية التعامل مع تلك الخسائر المالية وتوزيعها، خصوصاً أن تقرير لجنة تقصي الحقائق في لجنة المال النيابية خرج ليُشير إلى الفارق الكبير في الخسائر بين أرقام الحكومة وأرقام مصرف لبنان والمصارف الذي يصل إلى 160 ألف مليار ليرة لبنانية.
ويعوِّل رئيس الحكومة على المستشار المالي «لازارد» بأن يأتيه بطوق النجاة بعدما كلّفه بإدارة تفاوض لبناني للتوصل إلى مساحة توافق حول الخسائر بين الأطراف المعنية. لكن مهمة الشركة الفرنسية لا تبدو يسيرة، إذ إن المطروح ليس التوافق من زاوية تعديل الأرقام التي تضمنتها خطة الحكومة، بل من زاوية توحيد المقاربة لكيفية إطفاء الخسائر، وما إذا كان دفعة واحدة أو على مراحل زمنية، وسبل توزيعها بين الدولة بدَينها العام ومصرف لبنان والمصارف. وإذا نجحت «لازارد» في حل شق الخسائر لضمان عودة ميمونة إلى صندوق النقد، فإن شق الإصلاحات سيشهد مداً وجزراً، ذلك أن الخطوات التي تتخذها الحكومة في سياق الإصلاحات لا تزال قاصرة، بشهادة وزير الخارجية الفرنسي الذي أتى إلى بيروت بشعاره «ساعدونا كي نساعدكم».
وفي المعلومات، أن التحرّك الفرنسي يحظى بدعم ألماني قوي ينطلق من إصرار أوروبي على وجوب عدم ترك لبنان، بما يمثله من نموذج غربي، لمصير الانهيار، رغم يأسهم من أداء المسؤولين اللبنانيين. على أن الحاجة الماسة للتدخل الغربي إنقاذاً لنموذج لبنان المتميّز في محيطه العربي ما عاد ممكناً على بياض. وقد حمل المسؤول الفرنسي معه «السلة التفصيلية» المطلوبة من حكومة حسان دياب، والتي كانت بدورها مطلوبة من حكومتيّ سعد الحريري في عهد عون من دون تحقيق شيء منها، وقبلها كانت مُدرجة على طاولة الحكومات السابقة.
ويقول مطلعون أن الفرنسيين قد ضمنوا ليونة أميركية حيال لبنان مشروطة بتنفيذ الإصلاحات بشكل جذري ومتوازٍ وترسيم الحدود البحرية. ومن ضمن سلة الإصلاحات، حمل لودريان معه تأكيداً على ضرورة إنجاز إصلاح السلطة القضائية بقانون واضح، وإصلاح الكهرباء ومن ضمنها العودة النهائية عن معمل سلعاتا، وتشكيل الهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات والطيران المدني، وترشيق القطاع المصرفي، إلى غيرها من الإصلاحات الجمركية لوقف تهريب البضائع على المعابر البرية والبحرية والجوية. وأرفق الإصلاحات بأهمية إنجاز الترسيم البحري بما يرسخ الاستقرار على الحدود الجنوبية ويرفع معه فرص بدء الشركات الأجنبية في استثماراتها النفطية، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على تعزيز أصول لبنان وضمان قدرته المالية في عملية إيفاء القروض والديون. على أن يحصل لبنان في تطبيق «سلة الشروط» على بدء تقديم التسهيلات الدولية لإعادة النهوض الاقتصادي وانطلاق تنفيذ المشاريع ضمن مؤتمر «سيدر» معطوفة على برنامج استثنائي من صندوق النقد الدولي.
والعبرة ليست في ما تعرضه فرنسا، بل في ما يمكن أن يلبيه لبنان من شروط. فحتى الآن، لا تزال السلطة الحاكمة تعاند الإصلاح الفعلي وتحاول بشتى الطرق التذاكي والالتفاف والتفلت من الانخراط الجدي في العملية الإصلاحية. أما مسألة ترسيم الحدود، فهي ورقة استراتيجية بيد «حزب الله» لها امتداداتها إلى أمن الطاقة على مستوى المنطقة والعالم، وليس من مصلحته راهناً التنازل عن هذه الورقة، فيما المواجهة الأميركية – الإيرانية على أشدها في المنطقة، وستحدد الأشهر المقبلة مسار الرئاسة الأميركية وما سيكون عليه مستقبل دونالد ترامب الذي بات متعثراً في معركته الانتخابية، من وجهة نظر خصومه، ومن ضمنهم إيران التي يقول أحد منظريها إنها شطبت من حساباتها احتمال اتخاذ خطوات حلحلة أو حسن نية مع ترامب قد تُترجم في صالحه انتخابياً.