شغلت الساعات الأربع، الفاصلة بين اولى الطلقات الرشاشة والمدفعية التي تردّدت في محيط بلدة الغجر، وموعد فك الاستنفار الاسرائيلي، وقبل دقائق من صدور بيان «حزب الله»، مختلف المراجع الديبلوماسية، بحثاً عن شيء من الحقيقة. فمعظم التقارير الديبلوماسية طرحت اكثر من سؤال عمّا جرى، على امل نيل الأجوبة من عواصمها. فلا اسرائيل قالت الحقيقة حتى اليوم ولا «حزب الله». وعليه ما الذي جرى؟
ليس من السهل وقف التشكيك الذي عبّرت عنه مجموعة من الديبلوماسيين الغربيين إزاء ما شهدته منطقة مزارع شبعا عند مثلث الحدود اللبنانية – السورية – الفلسطينية المحتلة بعد ظهر الإثنين الماضي وحتى ساعات المساء الأولى. فلا ارضتهم الرواية الإسرائيلية التي رافقت الاحداث منذ اللحظة الأولى، وما تلاها من تأكيد لمجموعة من التفاصيل المشكوك في صحتها. ولا الرواية التي قدّمتها الدائرة الإعلامية في «حزب الله» أقنعتهم أيضاً. وزاد من نسبة التشكيك، الصمت الذي امتد لأربع ساعات، من دون ان تتدخّل المراجع المعنية في الحزب، لوقف التسريبات التي نُقلت عن مسؤوليه، وما تداولت به وسائل الإعلام التي تدور في فلكها، من معلومات، ولجم مجموعة المحللين الذين راحوا بعيداً في تشريح ما جرى، وتوسّعوا في التفاصيل التي نفاها البيان في نهاية المسلسل القصير المدى.
والى مجموعة هذه الوقائع، التي لا يمكن نفيها او التقليل من اهميتها أو تسخيفها، فقد تولّى الجيش الإلكتروني، الذي يدور في فلك الحزب والمقاومة، مهمّاته التقليدية في مثل هذه الأحداث. فأشارت بكثافة الى مجموعة من البوستات عبر وسائل التواصل، في موازاة النقل المباشر لما يجري. فركّزت على «نجل الشهيد» الذي قُتل في دمشق – وحق الشهيد في العيش بكرامة – باللغة الفارسية- وسارعت الى تعميم صورة والدته تقدّم الحلوى في بلدتها، احتفالاً بالعملية التي انتقمت لشهيدها، بكل ما رافقها من تعليقات تتصل بالعملية وتوقيتها وشعاراتها، قبل تقديم النفي الكامل لكل ما تمّ التداول به استناداً الى جزئيات من الروايتين الإسرائيلية واللبنانية.
وبعيداً من هذا العرض، الذي اعتاد اللبنانيون متابعته، واعتادت المراجع الأمنية والعسكرية والبعثات الديبلوماسية الاتكال عليه لاستقصاء المعلومات الأولية، فقد جهدت المراجع الديبلوماسية عبر اتصالاتها بمن اعتادت لجمع المعلومات، بحثاً عن التفاصيل التي سبقت صدور بيان «حزب الله»، الذي نفى وقوع اي مواجهة بين الطرفين في تلك المنطقة. وراحت تتوسع في البحث عن التفاصيل بلا جدوى، ولمّا انتظرت صوراً موثقة من الجانب الإسرائيلي لتأكيد روايته – كما ادّعت تل ابيب – لم تأتِ حتى كتابة هذه السطور، ولا من الجهة اللبنانية المقابلة ايضاً. ولذلك، بدأت تبحث عن الحقائق المفقودة والتفاصيل الغامضة، والتي ليس من السهل الوصول اليها في ظلّ غياب طرف ثالث يمكنه ان يحسم جدّية أي من الروايتين.
وبناءً على ما تقدّم، وفي انتظار جلاء شيء من الحقيقة، تعدّدت السيناريوهات، وراحت في اكثر من اتجاه ، لكن ابرزها إثنان هما:
– السيناريو الاول، احتمال ان تكون القوة الإسرائيلية المتمركزة في تلك المنطقة الحساسة قد اشتبهت بعملية تسلّل، او انّها رصدت حراكاً لمسلحين او مدنيين، لا فرق، اقتربوا من الخطوط الحمر، فقامت بما قامت به من عمليات تمشيط، قبل ان تتوسع الى قصف ما يمكن تسميته الخطوط الخلفية للانسحاب التي يمكن ان تستخدمها العناصر التي كُلّفت المهمة ولم تستكملها.
– السيناريو الثاني يقول، انّ هناك مجموعتين شاركتا في العملية وانسحبتا من المنطقة باتجاهين معاكسين، بعد فشلهما في اتمام المهمة الى النهاية التي ارادتاها، فانسحبتا من المنطقة بعد نجاتهما من نيران مكمن العدو، وهو ما ادّى الى توسّع القصف في اتجاهين رافقا عملية الانسحاب. ولمّا لم تنجح العملية شاء الحزب عدم الاعتراف بها لأكثر من سبب مبرّر في مثل الظروف التي تحكم المواجهة بين الطرفين في توقيتها وشكلها ومضمونها.
وامام هذين الخيارين المتداولين، يجزم أحد الديبلوماسيين الغربيين، باستحالة وجود سيناريو ثالث لصعوبة تخيّله. ولو اعتبر الحزب ومعه بعض المحللين، انّ ما حصل كان مواجهة وهمية من صنع مخابراتي، او مجرد عملية تدريب من الفها الى يائها، استناداً الى خيال قوات الاحتلال، فإنّ لا اساس لها من الصحة، وخصوصاً انّ لدى الديبلوماسيين معلومات مسبقة لم تلحظ احتمال ان يكون الردّ – الذي كان مرجّحاً بنسبة عالية – من جانب الحزب على «عملية دمشق» من منطقة اخرى غير تلك التي شهدت الحادث.
فكل المعلومات التي كانت في حوزة عدد من الديبلوماسيين والمراقبين تستبعد ان يقوم الحزب بعملية من الجانب اللبناني من الحدود، وتحديداً من «فوق الخط الأزرق»، قبل اسابيع قليلة على قرار التمديد للقوات الدولية، وما تتعرّض له هذه القوات من تهديد قد يطاول تمويلها وعديدها وقواعد سلوكها. وطالما انّ العملية لن تنفع الحزب، ان قام بها من جانب الحدود السورية مع الجولان المحتل، بعد العملية الأخيرة التي استجرت «عملية دمشق»، دلّت الخيارات كلها الى منطقة المزارع الواقعة في منتصف الطريق بين خطي «اليونيفيل» اللبناني و»الأوندوف» السوري، وهو ما انتظرته القيادة الإسرائيلية ايضاً.
والى هذه المعلومات الموثقة، تستند القراءات الديبلوماسية الى ما لديها من رسائل متبادلة بين اسرائيل و»حزب الله»، سواء عبر قيادة «اليونيفيل» او بوسائل أخرى لم يخفها الطرفان. فمن بين الرسائل الإسرائيلية التي اكّدها الحزب، انّها لم تشأ قتل عنصرها في دمشق، وانّ ما حصل كان بالخطأ، فيما اكّدت قيادة «حزب الله» لمراجع معنية، أنّها لا ترغب بما يمسّ دور القوات الدولية ومهماتها عشية التمديد لها. وانّ اي عملية ستراعي المخاطر المقدرّة.
وبناء على ما تقدّم، يجزم الديبلوماسيون، انّ الجانبين الإسرائيلي و»حزب الله» لم يقولا الحقيقة حول ما جرى من خلف دخان الحرائق، على خلفية وجود «شيفرة» متبادلة لم يفهمها احد سواهما. ولذلك، فهم يراهنون على فك رموزها من عواصمهم، لحسم الجدل في وقت ليس ببعيد.
وكل ذلك يجري على وقع فوضى سياسية وحكومية، تسبّب بها الفشل في مواجهة اي استحقاق، واستمرار التعزيزات الإسرائيلية في الشمال الفلسطيني المحتل، رداً على تحركات «مشبوهة» لمقاتلي الحزب لتبريرها. فيما يعزز الحزب مواقع المراقبة على الحدود، متحيناً الفرص. فهل يفعلها من جديد. فالواجب – يقول احد قيادييه – انّ الرد المنتظر بعمليتين، واحدة مقابل «عملية دمشق»، والثانية مقابل اصابة منزل في بلدة الهبارية في الجنوب اللبناني.