يُقدّم “حزب الله” نفسه أنّه “قدس الأقداس” ومن “الأحزاب المعصومة”، وبالتالي فهو صخرة تتحطّم عليها كلّ الخطايا الحقيقية والمؤامرات الوهمية، سرعان ما يُشغّل “دفاعاته” ضدّ اللبنانيين، ثم يشنّ هجوماً عليهم ويُكيل الإتّهامات بحقّهم، في محاولة لإسكاتهم ومسحهم من الوجود الفعلي.
غير أنّ “زئير” الحزب فقدَ الكثير من زخمه وتأثيره، خصوصاً حين أدركوا أنّه “يحابي” الغرب الفرنسي والأوروبي والأميركي بسياسييه وأساطيله وجنرالاته وحلفائه الاقليميين، ويُجافي الحقيقة اللبنانية مع اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعاً بفائض قوّته ومناوراته ومحاولاته اليائسة لترهيبهم، واكتشفوا تحوّله “صائد” جوائز بائسة، في معرض معركته الوجودية الطاحنة!
لو لم تقع كارثة إنفجار مرفأ بيروت لما دخلت السفن البحرية الفرنسية والبريطانية الى السواحل اللبنانية، ولو لم تقع هذه الكارثة بفِعل إهمال السلطة (أياً كان سبب التفجير المباشر) لما نزل الرئيس الفرنسي الى شوارع بيروت مُتفقّداً الأضرار والمُتضرّرين في ظل ترحاب استثنائي، ولا كان ديفيد هيل سار في الجميزة من دون اعتراض المُعادين للسياسة الأميركية.
لو لم يقع التفجير المأسوي، لما نُصبت المشانق رمزياً في وسط بيروت لرموز السلطة وبينهم أمين عام “حزب الله” من دون خوف من ردّات فعل المُناصرين.
هذه المشاهد التي عكست تراجعاً لسطوة “حزب الله”، ومزيداً من التذمّر في بيئات كانت لفترة قريبة غير مُعادية له، تعطي مؤشّراً ورسالة يُفترض أن تُقرأ مِمّن لم يزل يؤمن بقيامة دولة في لبنان داخل “حزب الله”، وهي رسالة تُظهر الغضب تجاهه وتحمله مسؤولية الانهيارات التي أدّت الى تفجير 4 آب، وهو بلا شك لا يتحمّل وحده المسؤولية، لكنّ المعاندة وإصراره على حماية أركان السلطة (هو شريك فيها) وقواعدها والتشبّث برموزها، كفيلة بأن تُلقي عليه كلّ مسؤوليات وتبِعات الحال اللبنانية، ولو كان لا يتحمّل إلا جزءاً منها في الحدّ الأدنى.
لا شك في أنّ “حزب الله” الذي أخذ على عاتقه مهمّات تفوق قدرة لبنان واللبنانيين على تحمّلها، سواء في التزامه الكامل بمعركة التمدّد الإيراني، وانخراطه في حروب خارجية، سيتعامل مع كل تعبير مُعارض لهذا السلوك على أنّه مؤامرة، وهو ما دفعه الى “شيطنة” انتفاضة 17 تشرين التي قامت ضدّ الفساد والإفساد، وفي محاولة لإعادة تصويب مسار الدولة بإحداث تغيير حقيقي. هذه الشيطنة المُترافقة مع الذود عن المُفسدين والفاسدين من حلفائه ومن خصومه أيضاً، زادت من رسوخ صورة أنّ نظام مصالح”حزب الله” لا يُمكن ان يتآلف مع الدولة من خارج منظومة الفساد والسيطرة والتحكّم. وقد ساهمت الإنتفاضة في تعرية هذا الواقع وكشفه، بعدما فرضت على “الحزب” أن يُعلن على الملأ بأنّه لن يقبل بسقوط أركان السلطة في كلّ مواقعها السياسية والدستورية.
إدارة الظهر لمطلب تغيير السلطة، والإلتفاف على كلّ الدعوات الإصلاحية المُتّصلة بقطاعات الدولة، والإصرار على الردّ على أي دعوة إصلاحية لبنانية بـ”المثالثة” أو بالحرب الأهلية وبشعارات مذهبية، زاد من عزلة “حزب الله”، وفاقم من أزمات الدولة، وهو ما جعل التحذير بالحرب الأهلية صوتاً في وادٍ لا صدى لبنانياً له. فمن المؤسف أن تصدر مثل هذه التحذيرات، في أكثر المراحل من تاريخ لبنان التي ينحسر فيها الصراع الطائفي والمذهبي لصالح صراع لا تحكمه العصبيات الطائفية، إنّما إرادة لبنانية تريد أن تحمي الدولة من الانهيار.
معاندة “حزب الله” إرادة التغيير الداخلية، ومحاولته المستمرّة لتقويض نظام المصالح اللبنانية التاريخية في علاقاته الخارجية، عبر حماية منظومة السلطة الفاسدة، يُعبّر عن المعضلة التي صار اليها “الحزب”، وهي المعضلة التي تقوم اليوم على أنّ المشكلة خارجية وليست أزمة حكم وسلطة في لبنان. بهذا المعنى يُمكن فهم ترحيب “الحزب” بالجهود الفرنسية في لبنان، وفهم ما قاله الرئيس نبيه بري باسمه وباسم “الحزب” أيضاً، عن بشائر التوصّل الى اتّفاق الحدود البحرية مع اسرائيل.
معضلة “حزب الله” تكمن هنا، إستعدادٌ لتقديم التنازلات للخارج في مقابل قمع الداخل اذا مسَّ بالسلطة ولو كانت “مكلّلة” بتاج الفساد. ومن هنا إنقلابه الإستباقي على اللبنانيين وقطع الطريق على مساءلته ولو سياسياً، عبر لعبه دور “الزوج المخدوع” وآخر من يعلم بشأن مرفأ بيروت.