منذ بداية الانتفاضة الشعبية، ثم الأزمة الحكومية، لا تزال تطرح تساؤلات عن حقيقة مواقف حزب الله، ليس فقط مما يجري من تظاهرات، بعيداً عن الاتهامات بتدخلات غربية فيها، إنما أيضاً من مستقبل العلاقات بين المكونات الأساسية التي يتقاطع معها الحزب، وخصوصاً التيار الوطني الحر.
منذ اللحظة الأولى، كان حزب الله ضد قطع الطرق الرئيسية، وهذا يعني تحديداً بالنسبة إليه طريق الجنوب وطريق البقاع، فيما صبّ اهتمام التيار الوطني الحر على طرق جبل لبنان الداخلية والساحلية. وقطع الطرق ومن ثم فتحها تسببا في ازدياد منسوب الملاحظات الداخلية في أوساطه الأمنية والقيادية، تجاه الجيش لعدم مسارعته الى فتحها، واستطراداً تماهي الجيش أميركياً مع التظاهرات. لكن هذا الشقّ محفوظ في الوقت الراهن جانباً لدى دوائر الحزب الرفيعة في انتظار جلاء الوضع الميداني أكثر فأكثر. وثانيهما أن انتقال المتظاهرين إلى مرحلة فتح الطرق، واختبار القلق الميداني من حادثتَي الرينغ والشياح ــــ عين الرمانة، يترجم العودة الى ما كان الحزب قد طالب به منذ اللحظة الأولى، أي البقاء في الساحات، ولو الى ما شاء الله، وهي تجربة عرفها الحزب في بقائه في رياض الصلح عام 2006. وهذا يعني تلقائياً تخفيف الضغط الداخلي عليه، ما يسمح له بالانتقال الى المرحلة السياسية بهدوء أكثر، إضافة إلى ما يسمح له بوضع بعض النقاط على الحروف على خط التيار الوطني الحر ورئيسه الوزير جبران باسيل والرئيس سعد الحريري.
ليس سراً اعتداد التيار بعلاقته مع حزب الله، ولا سيما في ما يتعلق بالمفاصل الأساسية. يحلو للتيار أن يتحدث عن هامش داخلي في العلاقة يتحرك فيه التيار بحرية، مع المكونات الداخلية، بغير ما هو واقع الحال في العلاقة الاستراتيجية. هذا الهامش الواسع يتكئ عليه التيار انطلاقاً من ورقة تفاهم مار مخايل التي أسست لتنسيق ترجم في كثير من المحطات، سواء في حرب تموز أو تأليف الحكومات، وصولاً الى انتخابات الرئاسة، واستفاد منه التيار في وضع خريطة طريق غير مسبوقة له، واستثمار هذا الزخم الى الحد الأقصى داخلياً. ليس مفصل 17 تشرين الأول هو الذي جعل السؤال مطروحاً حول أولوية تفاهم مار مخايل أم تسوية الدوحة لدى حزب الله؟ إنما المسار الذي اتخذته التظاهرات ضد التيار الوطني ورئيسه الوزير جبران باسيل، ومن ثم ضد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والأخطاء التي ارتكبت على طريق مواجهة هذا الفريق للتظاهرات، ومن بعدها تسمية الرئيس المكلف سلفاً (محمد الصفدي) وتحديد مواعيد أسقِطت لاحقاً، وتأليف الحكومة وتوزع الحصص فيها قبل تسمية الرئيس، كتتمة لمسار بدا منذ بداية العهد. حتى ما قبل 17 تشرين، كان الحزب يغطي كل ثغرات التيار، ويقف معه الى الحد الأقصى. لكن تدريجاً، ومع تطور الأوضاع على الأرض، والمعلومات عن أوضاع المتظاهرين، ولا سيما في الساحة المسيحية، ورغم أن التيار لا يزال يتمتع بحصانة الحزب، إلا أن هناك من نصح التيار بوضع قليل من النبيذ في مائه والتحفيف من حدة أدائه. لا يمكن للحزب أن يقبل بفرض سلوكيات داخلية عليه، حين يتعلق الأمر بانعكاسات هذه السلوكيات على مساره السياسي الداخلي والإقليمي، وعلى علاقاته مع التيارات والأحزاب الأخرى انطلاقاً من حساباته الخاصة، علماً بأنه بدأ يتلمس ارتداد ذلك منذ أحداث الصيف الفائت. حاول الحزب في الأسابيع الماضية امتصاص نقمات داخلية شعبية وسياسية، لكن في المقابل كان ينتظر من حلفائه أن يكونوا أقل حدة في التعاطي في ملفات حساسة، وعدم الإفراط في منسوب فرض الشروط ورفع السقوف عالياً كلامياً، سواء في شكل الحكومة أو توزع الحصص فيها، وصولاً الى فرض استبعاد أطراف وتزكية أشخاص، الأمر الذي يكبّله كحزب. في لقاءات عقدت أخيراً بين الطرفين، قدمت نصائح بالتهدئة وعدم تصعيد اللغة والخطاب السياسي لأن الهدوء من الضرورات المطلوبة حالياً. للحزب أولوية تتعلق بالتشكيلة الحكومية تحت عنوان عبّر عنه بدقة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، حين دعا الى التمسك بحكومة وحدة وطنية وبالطائف. من هذا العنوان، يعود الحزب الى تسوية الدوحة التي أخرجت حكومة وحدة وطنية، لأن التسوية الرئاسية ومعها تفاهم مار مخايل لا يعوضان اليوم للحزب عن ضرورة امتصاص النقمات الشعبية والتدهور الاقتصادي، ومعهما مخاطر دولية وإقليمية في ظل ما يشهده حالياً من تطورات في العراق وإيران وسوريا، والاستهدافات المتكررة له. لذا يصبح الائتلاف الحكومي الذي يضم كل الأحزاب، بما فيها المكونات المسيحية كافة، ورقة مطروحة على الطاولة في هذا التوقيت سياسياً وأمنياً واقتصادياً، كما هو مطلوب عودة حلفائه خطوة الى الوراء.
في المقابل، ومنذ اللحظة الأولى لاستقالة الرئيس سعد الحريري، لم يكن هناك من مرشح لدى الحزب إلا الحريري نفسه، ولا يزال الأمر كذلك، رغم الدخول في لعبة الأسماء والترويج لبعضها وتزكية البعض الآخر، إلا أن الحريري لا يزال خيار الحزب الأول. لا يريد الحزب أن يترك الحريري المسؤولية التي يتشارك فيها بإيجابياتها «القليلة» وسلبياتها الكثيرة، وهو هنا لا يمكن أن يسمح للحريري بأن يكون خارج التركيبة القائمة، ليس تفادياً لتأجيج الصراع السني ــــ الشيعي فحسب، إنما أيضاً لأسباب تتعلق بوضعية الحريري الإقليمية والدولية. الحزب أيضاً له حساباته الإقليمية ومخاوفه من أي اعتداء إسرائيلي تماشياً مع ارتفاع حدة الضغوط الأميركية عليه، ما يفرض عليه كذلك التحسب على المستوى السياسي، إضافة الى التحسب العسكري. وهو هنا عقلاني في اعتبار أي شخصية سنية لا تحظى بتأييد تام من الحريري، لا يمكن أن تواجه التحديات الإقليمية كما الداخلية. والتجربة مع الحريري في أكثر من استحقاق بيّنت أنه قادر على التماهي مع متطلبات المراحل وتلوّنها وعلى استثمارها. ضغط الحزب في اتجاه بيت الوسط والزيارات المتكررة له، تعكس جانباً أساسياً من هذه الرغبة، تقابلها معرفة الحريري بالحاجة إليه ورغبته الشخصية في العودة رئيساً للحكومة، تنعكس شروطاً متبادلة، هي اليوم المساحة التي يجري التفاوض بشأنها لتخفيف حدّتها. لأن الأزمة الاقتصادية، على خطورتها، واحد من جوانب الأزمة بالنسبة الى الحزب، لكن تبقى الأزمة الحقيقية في مكان آخر، وتفترض معالجات من نوع آخر يتعدى الخطاب الشعبوي والمماحكات، المسموحة في أيام الترف السياسي، لا في الأزمات الوجودية.