الى حين تبيان حقيقة المواقف الداخلية والخارجية، الداعية الى تغيير النظام في لبنان، أو إرساء دولة مدنية، مع اختلاف وجهات النظر حول مفهومها، وحتى نضوج حل سياسي ما، أو إعادة ترتيب في المنطقة تشمل لبنان، يعمل اللاعبون السياسيون في الداخل على إمرار الوقت بطريقة تحفظ لهم مواقعهم أو تعزّزها. كثيرون يعتبرون أنّ الحكومة المقبلة لا تبدّل في الواقع شيئاً، فيما تعوّل عليها جهات سياسية لمنع لبنان من السقوط مالياً واقتصادياً، على أقلّ تقدير. من جهته، وعلى رغم الضغوط التي تستهدفه، يتمكّن «حزب الله» من إمرار الاستحقاقات بأقلّ ضرر عليه، ومنها حكم المحكمة الدولية في إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخذ على عاتقه الحلول مكان المُراقب والمُحاسب والمُعاقب للسياسيين في لبنان والسلطة الحاكمة، الدور الذي فشل في تأديته كلّ من الشعب والقضاء اللبناني لأسبابٍ متعددة ومتشابكة. ماكرون حدّد لهؤلاء المسؤولين والسياسيين العمل الذي يجب أن يؤدّوه، وضمن مهلة زمنية محددة: «15 يوماً لتأليف الحكومة، خريطة طريق الاصلاحات في قطاع الكهرباء والقطاع المصرفي، والموضوع القضائي والتدقيق الحسابي في المصرف المركزي.. على أن تُذكر هذه الإصلاحات في البيان الوزاري للحكومة الجديدة، وأن تتظهّر خلال 6 أسابيع بعد ولادة الحكومة».
وإذ أكّد ماكرون أنّ جميع القوى السياسية أبدت التزامها بخريطة الطريق هذه، جزم أنّه إذا لم يتمكّن الرؤساء من تنفيذها، سيعلن في نهاية تشرين الأوّل أنّ لا مساعدة للبنان بسبب هؤلاء.
على رغم هذا الحسم الفرنسي، والعودة بقوة الى لعب دور «الوالي» على من يُفترض أنّهم منتخبون من الشعب، ويحرصون على مصلحة وطنهم ومواطنيهم، تجزم مصادر متابعة للمشاورات منذ ما قبل تكليف السفير مصطفى أديب، أنّ الأفرقاء ما زالوا متمسكين بما يعتبرونه «حصصاً ومكتسبات لهم»، إن على المستوى الطائفي أو على الصعيد الحزبي، على رغم ضيق هامش المطالب مع التلويح بـ»العصا» الفرنسية.
وإذا اتخذت الحكومة المقبلة شكل حكومة تكنو – سياسية أو تكنوقراط مستقلين، هناك اعتبار أنّ قرار هذه الحكومة سيكون بطريقة أو بأخرى تحت سيطرة الفريق الحاكم، أي «حزب الله» وحركة «أمل» و»التيار الوطني الحر»، أو أقلّه لن تسير عكس مصالح هذا الفريق وخياراته، حتى لو تأمّن لها الغطاء السنّي. كذلك لن يقف هؤلاء متفرجين على عملية التأليف، ولن يعطوا الضوء الأخضر لأي تركيبة وزارية لا يسمّون وزراءها أو «يرتاحون» لهم. لكن انطلاقاً من الفشل في أكثرية الوزارات في الحكومات المتعاقبة، يدور الحديث عن المداورة والتبديل في الحقائب الوزارية، «حياءً» أمام الداخل الغاضب والخارج الناقم، على رغم من أنّ أمام هذه المداورة عقبات عدة، طائفية وحزبية وشخصية.
ومن أبرز الوزارات التي يُعمل على أن لّا تبقى مع الفريق السياسي نفسه، إن مباشرةً أو عبر «مستقل»، وزارة الطاقة، التي تعاقب عليها وزراء «التيار الوطني» منذ عام 2009، خصوصاً أنّ قطاع الكهرباء يُكبّد الدولة خسائر سنوية بمليارات الدولارات، ويُشكّل ثلث العجز في الموازنة العامة، وبالتالي إنّ النجاح في إصلاح هذا القطاع سينعكس إيجاباً على خزينة الدولة واللبنانيين، وعلى بدء استعادة ثقة الخارج.
رئيس «التيار» النائب جبران باسيل ينفي ما يُتداول عن أنّه يتمسّك بحقائب معينة، لا سيما منها الطاقة والخارجية، ويؤكّد أن لا مطالب أو شروط لدى «التيار»، وأنّه أوّل من سيسهّل عملية تأليف الحكومة المقبلة. وتمنّى بعد استشارات التأليف أمس، أن «تكون هناك مداورة في الوزارات»، معتبراً أنّه «إذا وافق الجميع على هذه المداورة يكون ذلك جيداً للبنان، لكن المهم أن لّا تسلك المداورة خطاً واحداً». في المقابل، هناك تأكيد للتمّسك بالتوقيع الشيعي في وزارة المال. فكيف ستجري هذه المداورة؟ هل يتخلّى باسيل عن وزارة الطاقة؟ ومقابل أي حقيبة؟ هل يربط تخلّيه عن «الكهرباء» بتخلّي رئيس مجلس النواب نبيه بري عن وزارة المال؟ وهل يتسلّم هاتين الوزارتين وجهان من الوجوه التي يثق بها اللبنانيون، خصوصاً المنتفضون منهم، والتي وعد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بتوزيرها؟
النقمة الشعبية و»الرقابة» الفرنسية – الدولية، تحتّمان تغييراً ملحوظاً في الحكومة المقبلة، أقلّه شكلاً. ويُعوّل على أن تركّز هذه الحكومة على مهمة إجراء الإصلاحات، من دون أن تطرح الملفات الإشكالية التفجيرية. وعلى رغم من أنّ فشل هذه الحكومة سيعني فشلاً للبلد وإغلاق باب المساعدة الدولية، إلّا أنّ نتيجة أدائها، مهما كانت، ستنعكس على «حزب الله» تحديداً، الذي يتعرّض لضغوط عدة داخلياً، فضلاً عن الضغوط الخارحية، جرّاء ما يُعتبر «تغطية للفساد ولحلفائه»، إضافة الى الاتهامات التي تطاوله مباشرة، وتصاعد النقمة عليه وعلى سلاحه، وصولاً الى حدّ المطالبة بفك الشراكة السياسية معه.
وبقدر ما يحاول «حزب الله» الابتعاد عن حكومة اللون الواحد، يُعوّل على حكومة تحظى بتوافق وطني، انطلاقاً من اعتباره أنّ البلد لا يُحكم ولا يُدار الّا بالتوافق، وأنّ الجميع يجب أن يكونوا شركاء في إتخاذ القرار وفي تحمّل المسؤولية.
في المقابل، تعتبر جهات سياسية معارضة، «أنّ «حزب الله» يسيطر على البلد، لكنه يفضّل السيطرة برضى الجميع أو الأكثرية، لكي يتّخذ هذا التوافق والدولة غطاءً له ولسياساته وأعماله وأهدافه».
الضغط المتعدّد الجهات والأبعاد على الحزب يُجبره على الدخول في تفاصيل لم يكن ليهتمّ بها، لو أنّها لا تنعكس سلباً على وجوده وعلى النقمة الشعبية عليه. وعلى رغم من أنّ الحزب لا يُمكنه الآن إجراء أي مراجعة لتفاهماته السياسية «الاستراتيجية»، إلّا أنّه يضع حدوداً لمسايرة الحلفاء على أكثر من صعيد، ومنها الحصص الوزارية. فحدود مصالح الآخرين تقف حيث تبدأ مصالح «حزب الله» الوجودية.