لبنان دفع ثلاثة أثمان باهظة قبل ان ينهار تحت ثقلها: ثمن كونه مصمماً لشيء من دور “أثينا” أي الحكمة في منطقة مضطربة. ثمن أخذه الى دور “اسبرطة” أي القوة والذي أتعب كل البلدان العربية. وثمن خطايا حكامه وقصر نظرهم واستمرار جوعهم الى المال والسلطة ولو في سفينة تغرق. خلال الحرب كان عليه ان يصبح “المصب” لنهر المشاكل والصراعات في المنطقة بكل روافده الدولية. وبعد الحرب بقي المصب ولكن ضمن وصاية تنظم جريان الروافد، وأضيف اليه ان يصبح “رافداً” في الاتجاه المعاكس من روافد “الممانعة” وان يقوم بأدوار في المنطقة.
لكن البلد حافظ على حد ادنى من “التساكن” بين مشروعين: مشروع بناء “دولة” تمارس الوظيفة العادية للدول التي تساعد المجتمع على استخدام كل طاقاته، لا الدول التي تقتل المجتمع. ومشروع تنظيم “قاعدة” متقدمة “لمحور الممانعة” بقيادة ايران. الحالمون بالمشروع الاول يكرّرون مطالبة “حزب الله” بالانكفاء عن دوره العسكري هنا وفي المنطقة والاكتفاء بدور الحزب السياسي. وأصحاب المشروع الثاني يرون انهم “منتصرون والمستقبل لهم”، حسب السيد حسن نصرالله، وان عليهم ان يكملوا أخذ لبنان الى “محور الممانعة”…
وأقل ما قاله نائب الامين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم لأهل التصورات الرومنطيقية هو “ان المقاومة ليست موجودة بفعل الظروف بل بفعل المبدأ، والمبدأ لا يتوقف ولا ينتهي ولو تغيرت الظروف”. وأحدث ما تقوله لنا اللجنة العربية التي تضم وزراء الخارجية في مصر والسعودية والامارات والبحرين والأمين العام للجامعة العربية هو “دعوة الحكومة الى إدانة التصريحات والتدخلات السافرة من جانب احد مكوناتها الاساسية، في اطار الالتزام بعلاقات الأخوة التي تربط الدول العربية بالجمهورية اللبنانية”. فهل صار “التساكن” خارج القدرة على صيانته؟
مهمة الرئيس ايمانويل ماكرون هي اعطاء فرصة اضافية للابقاء على “التساكن” واخراج لبنان من “الجورة” عبر حكومة بلا أحزاب، ومع انه ساهم في “ترميم” التركيبة الحاكمة التي قادت لبنان الى الانهيار، فان العرقلة لا تزال الرياضة المفضلة لديها. وليس واضحاً ان كان فرض العقوبات الاميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس سيضيف الى العقبات أو لا. لكن الكل يعرف ان مواجهة مع اميركا وقت الحاجة اليها والى صندوق النقد الدولي و”المونة” الاميركية على دول الخليج هي نوع من معاقبة النفس فوق العقوبات الاميركية والبقاء في “الجورة”.
والسؤال، على رغم الانطباع بان تفجير الامور ليس في مصلحة “حزب الله” حالياً، هو: هل دقت ساعة الخيار بين المشروعين؟
سُئل فولتير، وهو على فراش الموت، ان ينكر الشيطان، فأجاب: “الآن ليس الوقت المناسب لصنع اعداء”.
والمؤسف والخطير ان المافيا السياسية والمالية والميليشيوية الحاكمة والمتحكمة تجد كل الاوقات مناسبة في لبنان لصنع أعداء.