لا تقتصر مشكلة اللبنانيين على العيش في ظل منظومة سياسية فاسدة لم تترك موبقات إلا ارتكبتها، بل قدرهم أيضاً أن يتحملوا وزر رؤاها الرجعية وقدرتها اللامتناهية على تقديس الشعارات واعتبار “المستنقع” الذي أغرقتنا فيه شاطئاً في الـ”كوت دازور” و”السقوط الحر” في الحفرة مضاهياً للهبوط على المريخ.
ليس مستغرباً اذن أن تتمترس قوى “المنظومة” خلف مطالبها الحزبية والمذهبية رغم الانهيار المالي وجريمة 4 آب ووصول أكثرية المواطنين الى حد الفقر، فجمهورها كتلة جاهزة لاستباحة الشارع بالعصي والرصاص أو دكّ صناديق الاقتراع بالأوراق، وهدفها “السامي” استمرار السيطرة وتقاسم المغانم أو خدمة المشروع الاقليمي حتى ولو انعدم الاستقرار وتمت تلبية غريزة العيش بالفُتات وسبقتنا الدول والشعوب آلاف الأميال في مسيرة التقدم والرفاه.
لم يعد مستهجناً سؤالٌ طالما استنكرناه وتجنبناه عما يجمع بين هذه القوى ومَن انتخبها، وبين سائر المواطنين، ما دامت مشتركات الحياة وفضاءات المعارف والقناعات آخذة في التباعد. لا فرحَ متشابه ولا تشارُكَ أحزان. أما السلوكيات اليومية لأكثرية المواطنين السلميين العاديين فتُناقض ما نجح أهل المنظومة في تصنيعه من منحى انفصالي، وهو لا يدخل في باب اختلاف الرأي والعادات والتوجهات لأنه مبنيٌ على الفكر الشمولي وعلى مفهوم للديموقراطية ينهل من نماذج دمشق وطهران وكوريا الشمالية، فيما عالَم الألفية الثانية ينظر الى معايير الأمم المتحدة لحقوق الانسان.
وإذ يجد السؤال صدىً انطلاقاً من الممارسات المقيتة والمعاناة الصعبة، تتصدع دفاعات المتشبثين بـ”العيش المشترك” و”المواطنية” ووحدة الشعب والدولة، ليحل محلها الحاح على تجريب أشكال أخرى من التعدد والفرز حتى ولو كانت غير واقعية او من نسج الخيال او مشاريع توترات.
لا تعني الأسئلة اننا وصلنا الى نقطة اللاعودة في انقاذ الدولة الواحدة، فلا يزال أصحاب العقول الراجحة يعتبرون “اتفاق الطائف” مرجعاً صالحاً لاستعادة دولة القانون والسيادة وحفظ حقوق الجماعات والأفراد، ويرفضون مقدمات “تحالف الأقليات” متمثلة بـ”المثالثة” التي تتمظهر منذ “اتفاق الدوحة” المشؤوم تارة بـ”القمصان السود” و”الثلث المعطل” وطوراً بالاستحواذ الدائم على وزارة “المالية” للشراكة في السلطة التنفيذية من باب المحاصصة أو التعطيل وتزوير “الطائف”.
تغرف قوى “المنظومة” من قاموس قديم لم يعد صالحاً لا لمواجهة تطورات الداخل ولا لمخاطبة العالم. وإذ ترفض الاعتراف بأن أحداث المنطقة وتواقيع البيت الأبيض والمساعي الجدية لتأليف “ناتو عربي” تقضم مشروع عمادها “حزب الله” القائم على التماهي مع طموحات “الحرس الثوري”، فإنها، وبدل أن تحصّن لبنان في زمن الانقلاب الكبير عبْر تسهيل “حكومة انقاذ” وتعزيز الدولة واحترام الدستور والديموقراطية والتمعُّن في أهمية الحياد، تقوم بتدفيعه ثمن قتال طهران التراجعي بعد مقتل سليماني وأفول نجم “الهلال الشيعي”. وليس حقنُ العهد العوني المنهار بالمقويات واستقدام اسماعيل هنية لاستقباله بغابة سلاح والتمسك بـ”المالية أو نخرِّب البقية” سوى جزء من حال الانكار التي يعيشها مأزوم يتوهّم الانتصار او مقامر يحطم الكازينو بعدما استنفد كل أنواع الرهان.