ليس بعيداً ما يحصل في لبنان عن المشهد العام في المنطقة. اتفاقيات تطبيع عربية للعلاقات مع اسرائيل ومواجهة أميركية مع ايران وشد حبال فرنسي اميركي. وضع المنطقة لم يعد على حاله. قواعد اللعبة تغيّرت وباتت محكومة باعتبارات جديدة. وما كان يرضى به الاميركي لم يعد مقبولاً مع استعداد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لخوض انتخاباته معولاً على تسجيل انتصارات تفيد اسرائيل.
يربط مصدر سياسي عليم بالسياسة الأميركية كل ما يجري بالصراع الاميركي – الايراني. لا يوفر ترامب جهداً الا ويبذله في سبيل تسجيل نقاط في حسابه الانتخابي من بوابة المواجهة مع ايران. وقد وجد في لبنان ساحة مرنة وفيها من الحلفاء ما يؤمن خوض المعركة في مواجهة “حزب الله” بسلاسة. قبلت أميركا التعايش مع واقع “حزب الله” في لبنان بالشكل الذي كان قائماً في الحكومة وخارجها، ولم تكن مستعدة للتضحية باستقرار هذا البلد في مواجهته، لكن مستجدات المواجهة الاميركية تفضي الى الاستنتاج ان النظرة الفرنسية للبنان والتي عبر عنها الرئيس إيمانويل ماكرون ان “لبنان يقع ويجب انقاذه” لم تفتح شهية الاميركي على التجاوب، فأعلنت الولايات المتحدة حربها ضد “حزب الله” من دون أدنى التفاتة الى إنهياره المالي والاقتصادي وحتى الأمني. منذ مجيء وزير الخزانة الاميركية العام الماضي تعاطى مع “حزب الله” على كونه سرطاناً يجب اجتثاثه من جذوره ولم يأبه لقول محدثه بأن ذلك سيجرف معه البلد. إعتبر يومها ان معالجة المصاب قد تتطلب عملية قيصرية لتقتلع المرض من جذوره. ومن يومها بدأت المواجهة المباشرة تتصاعد وتيرتها. لم يهتم الاميركي لانهيار القطاع المصرفي، وتعاطيه المرن قبل ثلاث سنوات لتحمل لبنان عبء النازحين السوريين على اراضيه وخوضه مواجهة مع الارهاب انتهى. مثل هذه الاعتبارات غابت عن اجندته وهي ترفض في سياق مواجهتها مع ايران تقبل الوضع طبقاً لما كان عليه سابقاً.
تبني اميركا على مستجدات الوضع في المنطقة التي تغيّرت حتى جغرافياً. صارت اسرائيل على حدود إيران، ومن اليوم وحتى نهاية العام تكون دول الخليج دخلت في تطبيع مع اسرائيل ليبقى لبنان وسوريا عرضة للضغط والمواجهة على كل المستويات.
هذه المستجدات أفضت الى وقائع جديدة على مستوى الاصطفافات السياسية محلياً. كل الاطراف بدأت تقفز من المركب خوفاً من العقوبات الاميركية وتجنباً لما ستحمله الايام الآتية من عقوبات، وترك الثنائي الشيعي في المواجهة بلا حليف او متضامن. حتى “التيار الوطني الحر” ورئيسه الذي يعتبر علاقته مع “حزب الله” من الثوابت قال أخيراً ما فسره مراقبون على أنه بداية النهاية لتفاهم مار مخايل. فيما كانت لافتة زيارة النائب السابق فيصل كرامي الى السفير السعودي وليد البخاري. تمايز كرامي وأراد ان يلحق بنفسه ويبحث عن مصلحته وقد تجاوزه الثنائي الشيعي الى اختيار رئيس للحكومة من عمق مدينته دونما ادنى استشارة.
دخلنا اليوم دينامية سياسية جديدة بحيث لم تعد المواجهة مسيحية – إسلامية بل سنية – شيعية مباشرة قد تنذر بحرب أهلية أو أقله صراع سني – شيعي، تجنب الطرفان تجرع مره. في كل اطلالاته الاعلامية كان يؤكد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله على وحدة الصف السني – الشيعي وكان يلاقيه الحريري الى منتصف الدرب في قضية المحكمة والحوار الذي لم يتوقف ولو خلف الكواليس.
صار مطلوباً من الحريري ان يذهب بعيداً في المواجهة. ثمة من ينصح رئيس الحكومة السابق ان المواجهة مع الثنائي تشكل باب عودته مجدداً الى الحضن العربي. ما نعيشه اليوم شبيه بما سبق وشهدناه في العام 2005 يوم كان “امل” و”حزب الله” في مواجهة “14 اذار”. اليوم لم يعد لـ”14 آذار” من وجود فباتت العلاقة السنية – الشيعية على المحك. وبات الكلام عن الفيدرالية يتردد مسيحياً على نطاق واسع.
صرنا امام واقع جديد قوامه: تكتل سني استنهض نفسه وصار الحريري ملاصقاً لنادي رؤساء الحكومات السابقين في ظل صمت سنة الثامن من آذار، تكتل شيعي، وتكتلات مسيحية، وما تبقى من ولاية منهكة للعهد. ذاك العهد الذي باتت تكمن مشكلته الأكبر في اعتذار الرئيس المكلف بعدما كان ظنه أن حكومة حسان دياب ستكون حكومة العهد بجدارة فباءت تجربتها بالفشل. لذا يظهر رئيس الجمهورية المعني الأول بالحل حفاظاً على ما تبقى من عمر العهد متحدثاً عن مداورة ولكن بشروط.
المطلوب أميركياً وفق المصادر عينها قوانين ضد “حزب الله” و”امل” وعقوبات سيستمر فرضها، والسؤال هو من يحمي لبنان من هذه العقوبات. الجواب يكون من خلال حكومة يدعمها الفرنسي بشكل من الاشكال. بالمقابل لن تسمح فرنسا بانهيار مشروعها في الشرق الاوسط انطلاقاً من ساحة لبنان. كان توقيف الفرنسيين لمسؤولين مقربين من “حزب الله” في مدرسة الزهراء شمال فرنسا مؤشراً ورسالة فرنسية الى “حزب الله” مفادها: “أنا معكم كما لم يتعاون الآخرون وسفيرنا في لبنان الوحيد الذي يتحدث مع مسؤوليكم”. السؤال هنا هل تريد ايران خسارة الفرنسيين؟ الجواب ان ليس من مصلحتها ولذلك يتوقع ان يحمل الاسبوع المقبل حلحلة بحيث يعاود اللواء عباس ابراهيم تحركه. وأحد المخارج المتوقعة تسمية نائب حاكم مصرف لبنان السابق رائد شرف الدين كإسم انقاذي لحقيبة المالية يتوافق على توزيرها الجميع. وكانت لافتة مرونة رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع تجاه الرئيس المكلف ودخوله على خط التشكيل بموقف يلتقي من خلاله مع موقف رؤساء الحكومات ما فهمه البعض على أنه يجسد ليونة سعودية في مكان ما تجاه اديب شرط استكمال المواجهة مع “الثنائي الشيعي” الى نهاية المطاف.