Site icon IMLebanon

الشيعية الأمنية إلى أفول

 

أنهت حرب العام 1975 حكم المارونية السياسية التي ساهمت بتأسيس الجمهورية الأولى، وأنهى اغتيال الرئيس رفيق الحريري حكم السنية السياسية على رغم صعودها في ظل الاحتلال السوري، وقد شارفت الشيعية الأمنية اليوم على النهاية.

لم يلقّب لبنان بـ«سويسرا الشرق» سوى بفعل حقبة الاستقرار والازدهار والبحبوحة التي عرفها البلد في زمن المارونية السياسية، فتميّز بدولة حديثة وعصرية ومتقدمة على كل دول المنطقة في شتى الحقول والمجالات، ولكن اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975 بسبب الانقسام حول خيارات استراتيجية كبرى أدى إلى إنهاء حكم المارونية السياسية وإنهاء النموذج الذي شكّله لبنان.

 

ففي زمن المارونية السياسية كان هناك دولة ومؤسسات عسكرية وأمنية وقضائية، وكان هناك قانون واستقرار وعيش مشترك وسلام داخلي، وكانت بيروت عاصمة الشرق ومفتوحة أمام كل زائر بقصد السياحة أو بهدف العلم والطبابة وطبيعة البلد ونظامه الحر والمفتوح، وكانت قبلة الجميع وحديثهم، ولكن الحرب قَضت على كل شيء وأفقدت لبنان ميزاته التفاضلية.

 

وقد اصطلح على تسمية الحقبة التي دخل فيها الرئيس رفيق الحريري إلى الحياة السياسية في العام 1992 مترئساً أولى حكوماته بعد اتفاق الطائف، بالسنية السياسية، ومردّ ذلك إلى الأسباب الآتية:

 

السبب الأول: إنكفاء المارونية السياسية بفعل الانقلاب السوري على اتفاق الطائف الذي طبِّق انتقائياً وعلى قاعدة غالب ومغلوب وتحكُّم دمشق بقرار بيروت.

 

السبب الثاني: إبعاد دمشق الشيعية السياسية عن واجهة القرار السياسي وتوزيعها للأدوار بين اقتصادي يقوده الحريري، ولكن من دون ان يكون مطلق اليدين، ودور أمني يقوده «حزب الله».

 

السبب الثالث: نجاح الدعاية العونية بفِعل عدم انتخاب العماد ميشال عون أوّل رئيس للجمهورية في اتفاق الطائف، من خلال تصوير هذا الاتفاق بأنه استبدل المارونية السياسية بالسنية السياسية، وانه نزع الصلاحيات من الموارنة وأعطاها للسنة، وهذا التصوير غير صحيح بدليل الوضع الحالي في ظل رئاسة عون للجمهورية، وعدم إثارته هذا الموضوع منذ اللحظة الأولى لدخوله القصر الجمهوري.

 

السبب الرابع: على رغم انّ استراتيجية الأسد الأب كانت تقضي بتعزيز نفوذ الشيعية السياسية كامتداد لتحالفه مع الثورة الإيرانية، إلّا انه كان يدرك أهمية التوازنات العربية والخليجية، فأطلق يد الحريري إرضاءً للسعودية من جهة، وتعزيزاً للتوازنات اللبنانية التي كان يحرص عليها من جهة أخرى، وبفِعل حاجته للحريري كرئيس حكومة في لبنان ووزير خارجية لسوريا من جهة ثالثة.

 

السبب الخامس: شخصية رفيق الحريري الاستثنائية بشبكة علاقاتها الخارجية وتوظيفها المال السياسي من دون حدود ولا سقوف، فطغت شخصيته على سائر الشخصيات، وتحوّلت رئاسة الحكومة معه إلى الرئاسة الأكثر وزناً وفعالية وتأثيراً، وذلك ليس بسبب الصلاحيات، إنما ربطاً بشخصه، وتكفي المقارنة بين دور رئاسة الحكومة معه ومع غيره.

 

فلكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها أطلق على المرحلة الممتدة من العام 1992 حتى اغتياله في العام 2005 بالسنية السياسية التي تختصر بشخص رفيق الحريري، ولكن من الظلم محاكمته على مرحلة لم يكن مطلق اليدين فيها، بل كان القرار اللبناني في دمشق، وهو كان مقيّداً بالسقف السوري سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وعلى رغم ذلك نجح في إطلاق مشروع إعماري وأعاد الحياة إلى بيروت وحاولَ ربط لبنان بسلام المنطقة ووضع البلد على الخارطة العالمية بفِعل علاقاته.

 

وأمّا ما اصطلح على تسميته بالشيعية السياسية فهو غير دقيق، وأفضل توصيف ينطبق على هذه الحالة بفِعل الواقع والتجربة هو الشيعية الأمنية لا السياسية، لأنّ مشروعها أمني وعسكري تَمددي، ولا مشروع سياسياً لها في لبنان، إنما جوهر مشروعها إبقاء لبنان ساحة للمحور الذي تنتمي إليه، وعلّة وجودها هو السلاح، ودورها يرتكز على الحرب والسلاح، وبالتالي ليست سياسية بالمعنى المتعارَف عليه.

 

والمواجهة المعلنة مع الشيعية الأمنية بدأت على أثر خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 واضطرار هذه الثنائية ان تدافع عن مشروعها بنفسها، فيما كان نظام الأسد يشكل الراعي لهذا الدور والمشروع انطلاقاً من التحالف العلوي-الشيعي، وقد اصطدمت هذه الشيعية بالانتفاضة السيادية الوليدة واستخدمت شتى الأساليب والوسائل لإجهاضها. وبالتالي، مع اغتيال الرئيس الحريري والانسحاب السوري تحوّل دور الشيعية إلى محور الانقسام في البلد بين مؤيّد لسلاح هذا الفريق ومشروعه، وبين معترض عليه، وجاء تفاهم «مار مخايل» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في شباط 2006 ليُضفي على مشروع الحزب الفئوي بُعداً أوسع ويؤدي إلى ترييحه، وتدرّج هذا المشروع من السقف الثابت المتمثِّل بالفيتو المذهبي، إلى الثلث المعطِّل المتحرّك بعد تحالفه مع عون، وصولاً إلى الأكثرية النيابية في ظل عهد الأخير.

 

فكل المرحلة الممتدة منذ خروج الجيش السوري، والتي تصدّر فيها الثنائي الشيعي واجهة الأحداث السياسية بفِعل سلاحه ودوره الخارجي والانقسام حوله، تتمثّل بالشيعية الأمنية والتي شهدت أسوأ الأحداث والتطورات من الاغتيالات السياسية والحروب مع إسرائيل وفي الداخل وفي سوريا، إلى تعطيل المؤسسات والانهيار المالي وتَحلّل الدولة بفعل استنزافها من منظومتي السلاح والفساد، وتعتبر حقبة الشيعية الأمنية من أسوأ الحقبات التي عرفها لبنان في تاريخه، والتي تَحوّل فيها إلى دولة مارقة ومعزولة عن العالم وفقدَ معها المواطن أسلوب عيشه، كما فقد لبنان كل عناصر قوته السياحية والاقتصادية والتعليمية…

 

ومع وصول لبنان إلى حافة الهاوية بفعل الأزمة المالية وانعدام الثقة بين الناس والدولة ودخول فرنسا على الخط في مبادرة من غير المعلوم بعد مدى قدرتها على إنقاذ الوضع اللبناني، فإنّ كل من يعتقد بأنّ عقارب الساعة ستعود إلى ما قبل 17 تشرين تاريخ انطلاق الانتفاضة الشعبية، هو واهِم لأنّ هناك شيئاً قد انتهى، وسياسة الترقيع لم تعد مجدية ولا صالحة، فضلاً عن انّ أحداً لن يوافق عليها، ويتطلّع الجميع إلى ولادة جديدة للبنان كل مقوماتها أصبحت جاهزة: بيئة داخلية حاضنة للتغيير، ضعف المحور القادر على منع هذا التغيير، ودخول كل المنطقة في هندسة ومعالم جديدة.

 

وبدلاً من أن تساهم الشيعية الأمنية في تمديد مرحلة الترقيع، ساهمت بشكل فعّال في تسريع نهاية الحقبة التي تُمسِك فيها بمفاصل الدولة في لبنان، فيما كان باستطاعتها ان تسهِّل المبادرة الفرنسية بهدف مزيد من شراء الوقت، ولكنها فَضّلت على غرار بشار الأسد مع القرار 1559 التعامل بخشونة لا ليونة مع الأحداث، وكشفت عن حقيقة تطلعاتها على مستوى النظام السياسي الذي تريد الإمساك بكل مفاصله، ووضعت نفسها في مواجهة مع معظم اللبنانيين ومع مبادرة تشكّل إنقاذاً للبنان. وبالتالي، سرّعت في سلوكها دينامية إنهاء هذه الحقبة، وزادت قناعة اللبنانيين قناعةً بضرورة ولادة لبنان الجديد.

 

كل الوقائع تؤشّر إلى أنّ زمن الشيعية الأمنية إلى أفول، وهذه مسألة حتمية ونهائية، وانّ لبنان دخل في مخاض الولادة الجديدة التي لم يعرف بعد شكل النظام السياسي فيها وطبيعته، ولكن من الثابت والأكيد انّ لبنان يطوي مرحلة ويفتح أخرى جديدة.