لا يمكن اختصار تشدد «حزب الله» بموضوع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة وامعانه في وضع شروط تعجيزية مبتكرة لاعاقة تأليفها بالسرعة المطلوبة استناداً لمبادرة الرئيس مانويل ماكرون، من باب استغلال قوة وسلاح الحزب في معمعة الصراع المحتدم بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على مستوى المنطقة هذه الأيام، كما بدا ذلك مكشوفاً على هذا النحو في الاتصالات الدبلوماسية التي جرت بين الدول الصديقة للبنان كفرنسا وروسيا وغيرها مع الجانب الإيراني لتخفيف القبضة الإيرانية وإبقاء لبنان بمعزل عن هذا الصراع ولو جزئياً في الوقت الحالي بالذات لكي يستعيد عافيته، بل يتعداه كذلك للرد على المستجدات المتسارعة على صعيد القضية الفلسطينية ولا سيما ما يتعلق منها باتفاقيتي تطبيع العلاقات التي جرت مؤخراً بين كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين مع إسرائيل، ولاظهار مدى سيطرة وتأثير نفوذ نظام طهران على لبنان الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع هاتين الدولتين كما سائر دول الخليج الشقيقة وغيرها والتي سمّمها الحزب بسلسلة ارتكابات وممارسات إرهابية استجابة للنظام الإيراني وتكريس نفوذه التدميري بالمنطقة العربية. ولذلك، فإن لبنان يدفع اليوم أثمان باهظة على خطين متوازيين، خط الصراع الإيراني مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة التي أصبح لبنان ساحتها المشدودة أكثر من غيرها بعد تفلت العراق جزئياً إثر اغتيال قاسم سليماني رجل إيران القوي على يد الأميركيين مطلع العام الجاري وتأليف حكومة جديدة تراعي المصلحة الوطنية العراقية العليا على نفوذ وتدخل واستئثار الميليشيات العراقية الموالية لإيران في شؤون ومقدرات العراق وسيادته وتستبيح اقتصاده وموارده خدمة لنظام طهران.
فالوضع في لبنان اليوم شبيه بما كان يعانيه العراق من قبل وما يزال حتى اليوم يقاسي مرارته وتأثيراته على شتى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية على وجه الخصوص، وهذه من المآثر السوداوية المدمرة للتدخل الإيراني الذي يتلطى تحت شعارات مزيفة وكاذبة، فيما هدفه الأساس يبقى تهديم مرتكزات الدول العربية وتمزيق نسيجها الطائفي والاجتماعي واستنزاف ثرواتها لصالح مشروع ولاية الفقيه وتمدده في أنحاء الدول المجاورة، واقوى الأمثلة ما حل بالعراق وما ارتكبته ميليشيات النظام الإيراني وما تزال ضد الشعب السوري طوال السنوات الماضية.
اما الخط الثاني فهو خط تحول الصراع العربي – الإسرائيلي باتجاهات مغايرة وبعيداً عن الدول العربية المجاورة خلافاً لما كان يحصل من قبل وتوجهه نحو بعض الدول الخليجية وغيرها، ما يُعيد خلط الأوراق في المنطقة من جديد، ويرخي بمؤثراته على لبنان تحديداً، باعتباره ساحة لنفوذ وسيطرة «حزب الله» الذي يجهر علانية بتبعيته للنظام الإيراني على حساب مصلحة لبنان واللبنانيين، وإن كانت مساحات التحرّك والرد على هذه التبدلات المتسارعة محدودة أو محكومة بقواعد تعيق القيام بردات فعل واسعة على المستوى الحاصل أو حتى دون ذلك.
ولكن هذا التطور في مجرى الصراع المذكور لا يمكن التقليل منه أو تقليل ردود الفعل المحتملة عليه ومن لبنان تحديداً في المرحلة المقبلة، انطلاقاً مما عاشه اللبنانيون طوال العقود الماضية، حيث كان لبنان يتحمل حيزاً لا بأس به من ردات الفعل والانتقام وتوظيف الساحة اللبنانية لبعث الرسائل المتعددة تجاه إسرائيل والولايات المتحدة والدول المعنية بالاتفاقيات الموقّعة مع إسرائيل تحديداً.
فمنذ توقيع اتفاقية «كامب دايفيد» وغيرها من اتفاقيات السلام الأخرى مع الأردن والفلسطينيين، كانت الساحة اللبنانية تلتهب دوماً ويدفع اللبنانيون نتائجها دماً ودماراً وخراباً ومزيداً من التفتت، ولعل استحضار رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية إلى لبنان من قبل «حزب الله» أثناء وجود الرئيس الفرنسي ماكرون فيه وتظهير وجوده في مناسبات عديدة بعد طول انقطاع لخلافه مع الحزب والنظام بسوريا خلال الحرب ضد الشعب السوري، يحمل في طيّاته أكثر من رسالة ومؤشر، وفي أكثر من اتجاه، خليجياً او اسرائيلياً وغير ذلك، في غمرة الصراعات الإقليمية المحتدمة على حدود وجوانب لبنان والدول الشقيقة في أكثر من منطقة.
أوّل الانقلابات على مبادرة الرئيس الفرنسي، كان التفاف «حزب الله» عليها باختراع عقدة التمسك بوزارة المال، ما فرمل هذه المبادرة واغرق النقاش في بحر من التجاذب الطائفي والمذهبي الذي لا ينتهي، فيما الهدف من هذه العرقلة في مكان آخر، يسعى النظام الإيراني من خلاله أخذ لبنان رهينة لديه، لتوظيفه في مصالحه ومكاسبه الخاصة على حساب ومصلحة الشعب اللبناني واستقراره وسيادته.
اليوم أكثر من السابق، يُدرك اللبنانيون الأثمان الباهظة التي يدفعونها جرّاء التهاون في تغطية وجود السلاح غير الشرعي لحزب الله. ولعل ما يحصل اليوم، لا ينفصل عن محطات استغلال هذا السلاح في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري واحتلال وسط بيروت وشل الدورة الاقتصادية وإغلاق المجلس النيابي وتعطيل الانتخابات الرئاسية لأكثر من عامين ونصف وفرض انتخاب الرئيس ميشال عون بقوة هذا السلاح، وما تسبب ذلك بما يعانيه لبنان من تدهور وخراب اقتصادي ومالي.