فوز بايدن يفرض على «محور إيران» ترتيباً جديداً ومختلفاً للأوراق التي بيده
ستُصبح الأمور، مع تقدّم الأيام، أكثر تعقيداً على الرئيس المكلّف سعد الحريري. وهجُ التكليفِ خَفَـتَ كلياً، ويلحقُ به وهج التأليف. تلك الصدمة التي كان مُعوّلاً عليها إيجاباً أصبحت من تمنيات الماضي. الحديث اليوم انتقل إلى مكان ثانٍ. باتت أسئلة من نوع آخر تُطرح، وتحملُ في طيّاتها ملامح تبدّلات في الأمزجة والرؤى. أسئلة تُقارب ما إذا كانت الظروف التي مهَّدتِ الطريق لمجيء الحريري لا تزال قائمة وفعَّالة، وما إذا تغيَّرت الأولويات لدى المعنيين من أطراف داخلية أو خارجية؟ وهل لا تزال ثمَّة فرصة تلوح في الأفق لوقف الانهيار، أم أنها ضاعت؟
في 31 آب، جرى تكليف مصطفى أديب بتأليف الحكومة بدفع من المبادرة الفرنسية التي قدمت على وقع انفجار المرفأ وتداعياته. منذ ذلك الوقت إلى الآن، يتمُّ التعاطي بكثير من ترف الوقت والاسترخاء ومن الشروط والشروط المضادة. هذا ما جرى اعتماده خلال عملية تأليف حكومة أديب الذي عاد واعتذر، ويتمّ اعتماده الآن مع الحريري الذي لا يزال يُقدِّم إلى رئيس الجمهورية مسودات للتشكيلة الوزارية من دون فائدة.
هُدرتْ أشهر ثلاثة كانت ثمينة جداً للبنان الذي عاد إلى الرادار الدولي من باب الفاجعة، ولكن حتّى الوجعالمولود من رحم موتٍ ثقيل للمدينة العاصمة ولشعبها ولمرفئها والمضاف على ضياع مستقبل اللبنانيين وأحلامهم، وعلى فقدان مقوّمات حياتهم، لم يستطع أنْ يقهرَ المنظومة الحاكمة، فبعدما أصابتها حالة من التضعضع، استعادتْ قواها من جديد.
لا خيارات أمام الحريري سوى الانتظار ولو كانت الكلفة عالية
وكل من موقعه السياسي، يعملُ اليوم للبحث عن كيفية الحفاظ على ما لديه من مواقع قوّة وسدّ الثغرات حيث مكامن الضعف. في هذه اللعبة، الأقوى والأهم والأكثر تأثيراً هو «حزب الله». يقول متابعون إن انفجار بيروت حرَّك المياه الراكدة ليس بفعل الكارثة التي أحدثها فحسب، بل من باب البحث عما إذا كان استهدافاً أمنياً يندرجُ في إطار الضربات الغامضة التي طالت مواقع لإيران داخل حدودها ولأذرعها في مناطق نفوذها من العراق إلى سوريا ولبنان، وهي جزء من حرب أمنية – استخباراتية قائمة على رسائل متبادلة يلفّها الغموض البنّاء. مع انفجار عين قانا جنوباً، ذهب الكلام إلى أنّ التفجيرات الغامضة في الإقليم ستطالُ من الآن وصاعداً لبنان. وحين أَطَـلَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي من على منبر الأمم المتحدة افتراضياً ليُعلن مجدداً عن مخازن أسلحة وصواريخلـ»حزب الله» في الجناح والشويفات والليلكي، بدا للمراقبين أن عاصفة الضغوط بلغت مستوًى دقيقاً، وبدا لـ»محمور إيران» وذراعها اللبناني أنه لا بدّ من الانحناء أمام رياحها العاتية لتمريرها بأقل الخسائر الممكنة. فعلى وقع تلك التحوّلات التي سبقت رسائل العقوبات عبر استهداف حليفيّ «الحزب» في حركة «أمل» وتيّار «المردة»، جاءت مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل «هدية» لسيّد «البيت الأبيض» المرشَّح دونالد ترامب، وورقة حسن نيّة تجاهه، وكانت استشارات تكليف الحريري الذي فُتحت أمامه طريق السراي.
القلق راهناً من أن تكون تلك اللحظة قد أصبحت من الماضي. في قراءة مُنظّري «محور إيران» أن الحريري جاء بأصوات قوى «8 آذار» على قاعدة الحاجة إلى وقف الانهيار المالي والاقتصادي، وأنه الأقدر على القيام بهذه المهمة مع المجتمع الدولي، وهذه خطوة يُفيد منها «المحور» ما دامت تُطيل أمد صمود لبنان، وتخفّف من التداعيات السلبية وتُؤمِّن له شراء مزيدٍ من الوقت.
ولكن مع الفوز المبدئي للديموقراطي جو بايدن في الانتخابات الأميركية، دخلت على المشهد عناصر جديدة. كانت إيران، في واقع الأمر، تتوقّع عودة ترامب، وهي أعدّت عدّتها كي تلاقيه في ولايته الثانية. ويفرض فوز بايدن على «المحور»، بكل مكوناته، ترتيباً جديداً ومختلفاً للأوراق التي بحوزته. على أنّ ما أقلقهم أكثر هو هجمة التصعيد وحدّته، بعد الانتخابات، والتي بدأت بالعقوبات على الحليف الأبرز له في الساحة المسيحية جبران باسيل، مروراً بمواقف السقف العالي ضده من وزير الخارجية مايك بومبيو، إلى ما نقلته السفيرة الأميركية للحريري بأن إدارتها ترفض رفضاً قاطعاً وجود «حزب الله» في الحكومة، مباشرة أو مواربة أو بالواسطة، وصولاً إلى الشعور بأن الرئيس المكلف يتصرّف وكأنه مُطلق اليدين. ووفق منظري «حزب الله»، لم يرق كثيراً لـ»الحزب» ولرئيس الجمهورية «التفهم» الذي أبداه المبعوث الفرنسي باتريك دوريل لوجهة نظر الحريري في التشكيل، والتي سعى إلى البناء عليها وتسويقها في لقاءاته.
هذه العوامل تتحكّم بعملية تأليف الحكومة برمتها. وتنطلق منها الأسئلة عما إذا كانت ظروف ما قبل 3 تشرين الثاني لا تزال مواتية لما بعده. فـ»حزب الله» ليس في عجلة من أمره خلال هذين الشهرين، ولن يعطي أي إشارة ممكن أن يُفهم منها أنه يُقدّم تنازلات، ولا باسيل يريد لهذه الحكومة أن تُبصر النور، وليس بيد الحريري أوراق قوة ولا هو قادر على التلويح بورقة الاعتذار التي يرغب بها كثيرون، وفي مقدمها العهد وصهره. كل ما هو قادر على القيام به، محاولة تدوير الزوايا التي لن تُوصله إلى برّ التأليف، لكنها تضعه في موقع مَن حاول وجهد وجرَّب وتنازل وسعى وما استطاع إلى كسر طوق التعطيل سبيلاً.
ستكون مرحلة شدّ حبال قاسية بين أميركا من جهة، وإيران و»حزب الله» من جهة أخرى، عٍلى أرض لبنان. في الاتجاه الأغلب، سيكون شدّ حبال سياسي– اقتصادي لا عسكري، بمعنى أن لا انزلاق إلى حربٍ غير محسوبة. على أن الانتظار سيكون مُكلفاً جداً، بحيث ستفوّت حكومة الحريري فرصة وقف الانهيار، وستكون خياراتها معدومة وليس أمامها سوى الارتطام. الرهان دائماً أنه عند كل مفترق، وعند كل سقوط، سيجدُ لبنان من يمدّه بالهواء، ولو بأجهزة تنفس اصطناعي، كي يبقى على قيد الحياة!.