تتسابق الأحزاب والكتل النيابية على «تبييض» صفحتها مع المواطن من خلال تقديم اقتراحات، ظاهرها يُساعد الناس على التخفيف من المعاناة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، لكنّ باطنها يتناقض وظاهرها، وقد يؤدي الى تعميق المأساة المعيشية.
من المهم جداً، بل من واجب الكتل النيابية وكل النواب، وفي مرحلة استثنائية كالتي يمر بها البلد منذ سنة ونصف، الانكباب على دراسات مشاريع قوانين هدفها الاول تخفيف المعاناة والظلم قدر الامكان عن المواطنين، لا سيما منهم الضعفاء الذين طاوَلتهم تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية في معيشتهم اليومية. لكنّ الأهم في أداء هذا الواجب التنبّه الى النقاط التالية:
أولاً – دراسة الجدوى الحقيقية لكل اقتراح يجري تقديمه لئلّا تذهب الاموال هدراً الى غير المستهدفين. ومثالنا على ذلك، أسلوب الدعم الذي اعتمد منذ بدء انهيار الليرة، والذي أدّى عملياً الى هدر مليارات الدولارات على أثرياء ومهربين وتجار جشعين.
ثانياً – دراسة الواقع المالي والاقتصادي وفق مفهوم الشمولية (macro) وليس (micro)، لأنّ الأضرار على مستوى الاقتصاد الشمولي اكثر خطورة وأذيّة للناس. مثالنا على ذلك، قرار وقف دفع ديون اليوروبوندز في آذار 2020، والذي كان يفترض انه لمصلحة اللبنانيين ويهدف الى توفير الاموال، لكنّ النتيجة جاءت عكسية، وساهمت في الفاجعة المالية التي يواجهها البلد اليوم.
ثالثاً – الحرص على التعمُّق في تداعيات أي قرار على المدى الطويل، لأنّ الاكتفاء بالجدوى على المدى القصير زمنياً هو قصر نظر غير مُبرّر. مثالنا على ذلك، سلسلة الرتب والرواتب التي كان يُفترض أن تساهم في تحسين القدرات الشرائية لشريحة من المواطنين، لكنها في النتيجة شكّلت عاملاً إضافياً لتسريع الانهيار الذي يدفع ثمنه الناس اليوم، ومن ضمنهم الشريحة التي استفادت من رفع الاجور في حينه.
رابعاً – الابتعاد عن الشَعبوية والمتاجرة الرخيصة بمشاعر المواطنين، وتحويل اقتراحات القوانين الى عملية تَسابُق محموم لكسب ود الناس من كيسهم. هذا يقترح إلغاء الضرائب، وذاك يدعو الى إلغاء الرسوم، وآخر يطالب بتعويضات سخية لهذه الفئة أو تلك، في حين انّ انعكاسات العطاءات غير المدروسة تودّي الى أماكن تزيد في الفقر والبؤس، وتضرّ بَدلاً من أن تفيد. ولولا هذا النمط من الاسراف في العطاءات غير المدروسة، والتي لا تقع في محلها، لَما وصلت مالية الدولة الى هذا العجز الخيالي، والذي يقف وراء كل الأزمات التي تفرّعت منه، ومن ضمنها أزمة الافلاس التي أُعلِنت في آذار الماضي. مثالنا على هذا النوع من الاقتراحات، مشروع دفع راتب بطالة لكلّ عاطل عن العمل. في المبدأ، هذا الاقتراح مثالي ومطلوب لأنه أكثر من ضروري وإنساني بامتياز، لكنه قد لا يبقى كذلك، إذا دُرست التفاصيل، وتبيّن انه سيؤدّي الى تمويلٍ بواسطة طباعة إضافية لليرة، بما يعني انهياراً أسرع لسعر العملة الوطنية، وانتشار الفقر والتعتير اكثر…
في هذا المناخ غير الصحي، وعن قصد أو غير قصد، تساهم الاقتراحات غير المدروسة لمساعدة الناس، في زيادة أضرارهم، وأخذ المجتمع الى أماكن أصعب. لذلك، ولأنّ الوضع استثنائي، أصبح من الواجب تغيير نمط العمل، وتشكيل «لجنة حكماء» من أصحاب الاختصاص تتولّى دراسة الجدوى الحقيقية لأيّ اقتراح يمكن أن يتحوّل الى قانون، على أن يتشكّل اعضاء هذه اللجنة من اشخاص لا يخططون للعمل في السياسة، وأن يوقّعوا تعهّداً بذلك، لأنه تبيّن أنّ معظم القرارات الخاطئة والقاتلة تَصدُر لأسباب عدة، منها: إمّا عن حسن نية، مصحوبة بجَهل مفاعيلها اللاحقة على الاقتصاد، وإمّا لكسب ودّ الناس مَرحلياً، ولو على حساب المصلحة العامة لاحقاً. ويبقى هناك هدف ثالث يتعلّق بأهداف خفيّة يسعى اليها مَن يقترح أو يدعم مشروعاً تدميريّاً للاقتصاد الوطني في المستقبل، على طريقة لغاية في نفس يعقوب.
يبقى السؤال: في أي خانة يمكن إدراج اقتراح النائب علي فياض، عضو كتلة «الوفاء المقاومة»، إقرار قانون ينصّ على أن تُدفع كل الديون للمصارف بالليرة اللبنانية ووفق سعر الصرف الرسمي، أي 1500 ليرة؟ هذا الاقتراح الوارِد بصفة المعجّل المكرّر، على الجلسة النيابية اليوم، يطرح علامات استفهام متشعّبة حول أهدافه وجَدواه. وهو يأتي وفق الحقائق التالية:
أولاً – يوجد تعميم يسمح لكل المقترضين الصغار (منازل، سيارات، قروض شخصية) بدفع قروضهم بالليرة على سعر 1500.
ثانياً – إنّ قسماً لا بأس به من المقترضين الذين يملكون القدرة على الحصول على لولار (شيك مصرفي بالدولار)، قد سدّدوا قروضهم للمصارف. وقد انخفض حجم دين المصارف للقطاع الخاص بما يوازي 10 أو 11 مليار دولار حتى الآن. وأصبح حجم محفظة الدين للقطاع الخاص حوالى 40 مليار دولار، أكثر من نصفها قروض مغطّاة وأصحابها قادرون على السداد.
ثالثاً – ما تبقّى من قروض بالدولار، واذا استثنينا القروض الفردية، هي قروض لشركات ومؤسسات ومتموّلين كبار. وهي مغطّاة في غالبيتها إمّا برهونات عقارية وسواها، أو بحسابات مصرفية مجمّدة بالدولار. هذا الوضع بالذات، هو الذي سمح للمجلس النيابي نفسه، ومن خلال لجنة المال والموازنة برئاسة النائب ابراهيم كنعان، بخفض التقديرات في تقييم حجم الخسائر جرّاء الديون المتعثّرة في المصارف من 40 ألف مليار ليرة، كانت مقدّرة في خطة الحكومة، الى 14 ألف مليار، بعد مراجعة لجنة الرقابة على المصارف، التي اكّدت انّ خطة الحكومة لم تأخذ في الاعتبار انّ 53 في المئة من القروض المتعثّرة تُقابلها ضمانات، وبالتالي لا يمكن اعتبارها متعثّرة.
هل المطلوب اليوم، وعلى أبواب شهر شباط، موعد بدء إعادة هيكلة المصارف وفق الشروط التي وضعها مصرف لبنان لتَنقية القطاع، إفلاس المصارف وتدفيع الناس الثمن المتمثّل بخسارة كل الودائع، والأهم خسارة أي أمل بالوقوف مجدداً؟ وما هو البديل من المصارف اذا اعتبرنا أن لا ضرر في إفلاس القطاع؟ هل نستطيع أن نطلب وصاية دولية على البلد، للتمكّن من استقدام وصاية مصرفية من قبل مصارف عالمية، كما جرى في العراق في العام 2003؟ هل هذا ما يريده «حزب الله»، من خلال السماح للمتموّلين بالافلات من دفع قروضهم بالدولار، ومن ثم إفلاس المصارف، بحيث نصبح عاجزين عن الاتفاق على أي خطة للانقاذ مستقبلاً مع صندوق النقد أو سواه، من دون طلب وصاية مصرفية خارجية؟ وهل سيستفيد اللبنانيون أم سيتضررون من مفاعيل اقتراح مماثل؟
من خلال الاجابة عن هذه التساؤلات، ينبغي أن يقرر «الحزب» موقفه حيال ما يقترحه في هذا الشأن. واذا كانت النية حسنة، ولا علاقة للاقتراح بغاية في نفس يعقوب، فمن الأجدى سَحبه، ولو انه بات في شبه المؤكّد انه سيسقط عملياً من خلال ترحيله الى اللجان، للتعَمّق والدرس.