لا يختلف اثنان أنّه مع توقيع تفاهم مار مخايل، بدأت قوة «حزب الله» تتعاظم في الداخل، ليبسط هيمنته بحكم سياسة الأمر الواقع على مختلف مؤسسات الدولة اللبنانية، بالتزامن مع إخضاع تدريجي لخصومه، ولحلفائه، ولمعظم مكونات الطبقة السياسية، ليبلغ الذروة مع وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وحصوله على الأغلبية البرلمانية. إذ تبيّن أنّ القاعدة التي انطلق منها أيُّ فريق سياسي تحت عنوان «لبننة» الحزب، لم تكن إلّا دعوات ساذجة، أو خبيثة، فبدل أن يتلبنن الحزب، فإنّ لبنان «تحزبل» على يد «حزب الله».
تسود نظرية لدى بعض الأطراف المعارِضة، أنّ «التيار الوطني الحرّ» شكّل ولا يزال، المرتكز الذي يمنح «حزب الله» حريّة التوسّع داخل المؤسسات وأجهزة الدولة، فالحزب وحده، ولو أنّه يملك السلاح، لم يكن ليقوى بمعزل عن التحالف مع «التيار» على التوسّع في مشروعه داخل لبنان. من هنا، تنطلق الأطراف المعارِضة لتأكيد نظريتها حول الأكثرية النيابية الحالية، إذ تؤكّد أنّه بمجرّد فك الارتباط بين الحزب و»التيار»، تُسحب من الحزب معظم قوته السياسية، فيصبح عاجزاً عن تشكيل حكومة وفق شروطه، أو انتخاب رئيس ينصاع لتوجّهاته، ولا حتى تمرير اقتراح قانون يخدم مصالحه، وهو أمر يُضعف مشروع الحزب الكبير. وبالتالي، تعتبر هذه الأطراف، أنّ هذا العامل أساسي في الأزمة التي تضرب لبنان منذ العام 2018، لذلك، فإنّ الهدف الأساس يكون بتغيير هذه «المنظومة الحاكمة»، عبر إجراء انتخابات نيابية مبكرة، خصوصاً أنّ «حزب الله» بات بعد 17 تشرين غير ما قبله. فبعض من إنجازات انتفاضة 17 تشرين 2019 أنّها كسرت المحرّمات، وحواجز الخوف، وبات «حزب الله» وأمينه العام حسن نصرالله، ضمن شعار «كلّن يعني كلّن»، ورَفضُ وجوده غير الشرعي بات مجاهرة على ألسنة المحتجين ويافطات الشوارع. وبالتالي، تعتبر الأطراف المعارِضة، أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية مسؤول عنها «حزب الله»، وأي مشروع إنقاذي سيبقى من دون أفق، طالما استمرت هيمنة الحزب على القرار السيادي اللبناني، لأنّ كل السياسات ستكون مرهونة بما يخدم أجندة الضاحية وليس بيروت، وإيران وليس لبنان.
هذا الواقع هل بات يفترض مواجهة مع «حزب الله»؟ وكيف؟ وهل يتحمّل «التيار» وحده مسؤولية توسّع مشروع الحزب في لبنان؟ وما هو موقف أصحاب الرأي تجاه هذه الأزمة؟
ليس وحده «التيار»
يُجمع المفكرون السياسيون على أن ليس «التيار» وحده، من غطّى «حزب الله»، ولو أنّه لا يزال مستمراً في هذه التغطية.
ويعتبر السياسي الدكتور توفيق هندي، في حديث لـ»الجمهورية»، «انّ مواقف «التيار الوطني الحرّ» شكّلت غطاءً سياسياً واسعاً لـ»حزب الله»، وساهمت بوضع يده على قرار الدولة اللبنانية، فلعبة «التيار» تتمحور حول السلطة، لكن في الوقت نفسه، فإنّ الأطراف التي تؤلف الطبقة السياسية «المارقة» هي بدورها منغمسة في لعبة السلطة، فيما القضية الوطنية في آخر سلّم اهتماماتها».
ويضيف: «ما جعل الحزب يسيطر بشكل كامل على الدولة هو أولاً، انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، والمساهمون الأساسيون بذلك، الدكتور سمير جعجع، الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط. وثانياً، انتخابات 2018 النيابية، التي جعلت الحزب يستكمل السيطرة على مؤسسات الدولة، من خلال قانون جائر. وبالتالي المسؤولية الأساسية بدأت مع «التيار» واستُكملت مع باقي الطبقة السياسية».
الكاتب والمحلل السياسي الدكتور حارث شهاب، سأل في حديثه لـ»الجمهورية»: «أليست «القوات» من أتت بما يُسمّى «الرئيس القوي»، الذي شكّل تغطية للحزب، و»تيار المستقبل» هو من نسج تسويات للمجيء بالجنرال عون، إضافة إلى الاشتراكي»؟ وبالتالي، فإنّ المنظومة الحاكمة التي يديرها «حزب الله» اليوم، جاءت بغطاء مسيحي أمّنه «التيار» للحزب، يقابله غطاء مسيحي آخر أمّنته «القوات» للحزب، وغطاء سُنّي أمنّه «المستقبل» وغطاء درزي أمّنه «الاشتراكي»، من خلال انتخاب عون رئيساً، إضافة إلى الموافقة على ما يُسمّى بحكومات الوحدة الوطنية».
من جهته، أوضح رئيس المركز العربي للحوار الشيخ عباس الجوهري، لـ»الجمهورية»، أنّ «التيار الوطني الحر» ليس وحده من أعطى القوة للحزب، فحتى «تيار المستقبل» ساهم بذلك، عندما لم يقدّم تجربة في إدارة الدولة، إضافة إلى وليد جنبلاط، وعموم فريق 14 آذار، الذي قدّم هدية «لهذه الهيمنة» عندما عجز عن إنشاء دولة ومؤسسات، لا بل كان مستفيداً من اهتراء هذه الدولة».
الحدّ من الهيمنة
يعتبر هندي، أنّ «المطالبة بحكومة اختصاصيين مستقلين أمر مستحيل، لأنّ الحزب لن يقبل بحكومة لا يسيطر على قرارها، وهو لا يملك السلاح فقط، إنما القدرة، التي تتمثل برئيس الجمهورية في قصر بعبدا، والأكثرية النيابية، والحكومة، وبالتالي المسألة كلّها تدور حول موازين القوى. كما أنّ مطلب الانتخابات النيابية المبكرة بحسب الهندي، غير وارد، لأنّ «حزب الله» لن يقبل بمخاطرة فقدان الأغلبية النيابية في البرلمان، وبالتالي سنكون أمام تمديد للمجلس النيابي الحالي».
أما خارطة الطريق بالنسبة لهندي فهي واضحة، «تدويل» الأزمة اللبنانية، عبر الانطلاق بالعمل الديبلوماسي الجاد، لإقناع أصحاب القرار الدولي بأنّ مصلحتهم هم، هي بخلاص لبنان وليس باندثاره، وأن تقدّم لهم خارطة طريق ترتكز على:
1- إتخاذ قرار في مجلس الأمن بوضع القرارين 1559 و 1701 تحت الفصل السابع.
2- توسيع مهام القوات الدولية.
3- وضع لبنان تحت الإنتداب الدُولي وفقاً للفصلين 12 و 13 من شرعة الأمم المتحدة.
د. شهاب يعتبر من جهته، أنّ «مواجهة الحزب سياسياً تتطلّب برنامجاً، وقوى سياسية فاعلة غير موجودة حالياً، في حين، أنّ انتفاضة 17 تشرين هي التي ألحقت خسائر كبيرة بالحزب، عندما فتحت الفضاء العام الشيعي الذي كان مصادراً من قبل الحزب، وخلقت ساحات شيعية تخالفه بالرأي في النبطية وبعلبك وصور وغيرها، وعاد النقاش السياسي إلى الساحة الشيعية».
ويعتبر أننا «ذاهبون إلى الانهيار، حتى على المستوى السياسي، لكن ليس بالضرورة ان يكون لصالح أيّ فئة في لبنان، وبالتالي، فإنّ مشروع المواجهة مع الحزب سيكون إما مشروعاً دولياً عربياً لبنانياً، أو أن الانهيار سيطال الجميع».
الجوهري من جهته، الذي لم يوافق على فكرة أنّ ايران والحزب يريدان شراء لبنان بالمعنى السياسي، خصوصاً انّ الحزب هرب من السلطة، وهو من اسقط حكومة حسان دياب، يرى أنّ التركيز اليوم يجب أن يكون على عنوان الفساد، وموضوع «حزب الله» سيكون له وقته. فالسؤال الأول عند بدء مشروع قيام الدولة هو سلاح الحزب، بينما المناداة اليوم بموضوع السلاح يقوّي مواقع الفساد. هناك طبقة سياسية تعيق بناء الدولة، و»حزب الله» مشوِّه لفكرة الدولة بسلاحه وبدوره البعيد عن لبنان، لذا، يجب ان يحدّد ما اذا سينتظم بمفهوم الدولة أم لا».
هذا الاختلاف بمنحى المواجهة مع الحزب، وعمق الكارثة التي تترصد لبنان على كل المستويات، يتزامنان مع مخاوف دولية على الكيان اللبناني، وهو ما يحذّر منه هندي، من أنّ «لبنان الشعب والدولة والكيان في خطر، بما معناه، انّ الكيانية اللبنانية بصيغتها الحالية المتمثلة بـ»الميثاق الوطني، ومقدمة الدستور، واتفاق الطائف في خطر».
وفي الترجمة العملية، إنّ القيادات والمرجعيات كافة مسؤولة عن القيام بـ»أفعال» تاريخية لمرحلة تاريخية، تجنّب لبنان الارتطام، وتحدّ من نفوذ الأجندات الخارجية، وإلاّ سيكون «بكاء وصرير أسنان».