رأت أوساط شيعية معارضة لـ»حزب الله»، انّ لا حلّ للأزمة اللبنانية من دون الإصرار على مؤتمر حوار وطني، وملاقاة الحزب بدعوته إلى مؤتمر تأسيسي. وشبهّت موقف «القوى السيادية» اليوم، أي 14 آذار وغيرها، بموقف اليمين اللبناني عشية الحرب الأهلية.
قالت هذه الأوساط الشيعية، انّ اليمين اللبناني لو وافق على إدخال تعديلات على دستور الجمهورية الأولى، لربما كان تمّ تجنيب لبنان الحرب، ولم يتحوّل اليسار رأس حربة البندقية الفلسطينية. ولكن، بمعزل عن هذا العامل الذي لا يمكن الجزم فيه بوقوع الحرب من عدمها، إلّا انّ الثابت في هذا المشهد، انّ ما تمّ رفضه من تعديلات عشية الحرب، عاد وشكّل لاحقاً المدخل لإنهاء هذه الحرب، والمقصود طبعاً وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ«اتفاق الطائف».
ورأت الأوساط نفسها، انّ عدم تطبيق «الطائف» لم يكن بادئ الأمر لاعتبارات لبنانية، إنما كان بإرادة سورية، ربطت القرار اللبناني بالقرار السوري، ووظفّت ورقة «المقاومة» بما يخدم أجندة نظام البعث. وفي كل المرحلة الممتدة من انتهاء الحرب حتى خروج الجيش السوري من لبنان، كانت الدولة اللبنانية صورية وشكلية وفاقدة قرارها السيادي، وبعد الخروج السوري واصل «حزب الله» السياسة نفسها برفض تسليم سلاحه، كما رفض تسليم الدولة ما انتزع منها بقوة الأمر الواقع.
واعتبرت الأوساط، انّ الوصاية السورية أخفت وجود مشكلة لبنانية – لبنانية، كونها كانت ممسكة بإدارة الحياة السياسية اللبنانية، ولكن بعد ان رُفعت يد هذه الوصاية، تبيّن وجود أزمة حقيقية لدى البيئة التي يمثلها الثنائي الحزبي الشيعي قوامها الآتي:
ـ أولاً، تشكّل التسوية في «اتفاق الطائف» عام 1989 استمراراً لتسوية العام 1943، اي بين المسيحيين والمسلمين عموماً، وبين الموارنة والسنّة تحديداً، فيما العامل الشيعي، الذي كان بدأ صعوده إبان الحرب لم يتمكن من بلورة توجّهاته وإسقاط وجهة نظره في وثيقة الوفاق الوطني.
ـ ثانياً، لا أحد ينكر انّ المكون الشيعي في لبنان تمتّع بالمساواة والحرية مع المكونات الأخرى، خلافاً لواقع الحال في كل دول المنطقة، ولكن عدم الإنكار لا يلغي حقيقة عدم جواز مواصلة اختصار المكون الشيعي بمكون آخر، وعدم التعامل معه كحالة قائمة بحدّ ذاتها.
ـ ثالثاً، لم تنتهِ الحرب سوى بتسوية أُقرّت في «اتفاق الطائف» بعد 14عاماً على اندلاعها. وجاءت هذه التسوية لتلبّي مطلب المسيحيين بنهائية الكيان وسيادته، مقابل مطلب المسلمين السنّة بعروبته، ومطلب الإصلاحات للسنّة مقابل مطلب الشراكة داخل مجلس الوزراء والمساواة التمثيلية داخل مجلس النواب واللامركزية للمسيحيين، فلماذا التعامل مع الشيعة على طريقة الإنكار بدلاً من الإقرار بهواجسهم؟
ـ رابعاً، لماذا تجاهل انّ الخلاف مع «الثنائي الشيعي» بدأ عام 2005، وانّ هذا الخلاف تجاوز المدة التي استغرقتها الحرب اللبنانية؟ وهل من يعتقد او يراهن مثلاً، على الظروف الخارجية، من أجل تدجين المكون الشيعي وجلبه إلى بيت الطاعة المسمّى «إتفاق الطائف»؟ ولماذا التسوية مطلوبة في مكان ومرفوضة في مكان آخر؟ وألا تكفي كل هذه الفترة للتثبُّت والتأكُّد من انّ الأمور لن تستوي من دون حوار فتسوية؟ وهل من حاول فتح النقاش جدّياً في هذا الموضوع؟ وهل من يعتقد انّ «اتفاق الطائف» الذي لم يُطبّق أساساً، ما زال التسوية الصالحة للتطبيق؟
ـ خامساً، ليس المطلوب استقواء اي طرف على الآخر، لأنّ لبنان لا يستقر على قاعدة غالب ومغلوب، ولكنه لا يستقر أيضاً على قاعدة الرهانات المتبادلة القائمة: رهان خصوم «حزب الله» على المعادلة الخارجية من أجل إلزامه تسليم السلاح والتسليم بتسوية «الطائف»، ورهان الحزب أيضاً على صفقة أميركية – إيرانية يُسلّم لبنان بموجبها هدية لطهران، فتعود بيروت تحت الوصاية ولكن من البوابة الإيرانية هذه المرة لا السورية.
ـ سادساً، يُخطئ خصوم «حزب الله» برفض دعوته إلى مؤتمر تأسيسي، بل هذا المؤتمر يجب ان يكون مطلبهم لحشر «الحزب» بتسوية ترضي جميع اللبنانيين، وهذا لا يعني انّ التسوية في متناول اليد، ولكن من المفيد معرفة ماذا يريد هذا الحزب مقابل تسليم سلاحه، وتذكيراً، بأنّ الإصلاحات الدستورية في «إتفاق الطائف» كانت نتاج مؤتمرات وجولات حوار طويلة، وبالتالي يجب ان نبدأ من مكان ما، لأنّه إذا كانت مطالب «أهل السنّة» معروفة عشية الحرب وإبانها، فمطالب «أهل الشيعة» ما زالت مجهولة، ومن المفيد في مكان التعرُّف عليها ونقاشها بصوت عالٍ، لتنقيتها وإقرار ما هو ممكن وإسقاط ما هو غير ممكن.
ـ سابعاً، هناك من يقول إنّ «حزب الله» يسعى إلى المثالثة ونيابة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وغيرها من المواقع، فهل من يؤكّد هذا الكلام، وهل من ينفيه، وهل من يعلم أساساً ماذا يريد الحزب بالتحديد؟ ومن قال انّ اي تعديل في النظام سيأتي على حساب المسيحيين؟ ولماذا هناك من يعمل على تخويف المسيحيين واستخدامهم دروعاً للحؤول دون فتح اي حوار واي نقاش هادئ وعقلاني في مصير لبنان ومستقبله؟
ـ ثامناً، هناك من يقول انّ أولوية «حزب الله» إيرانية، وهذا كلام صحيح، ولكن ألم تكن أولوية السنّة ناصرية وعرفاتية وأسدية في حقبة من الحقبات، وعروبية في كل الحقبات؟ وألم تكن أولوية المسيحيين دائماً غربية بحجة الخوف من المسلمين والعدد؟ وهذا لم يمنع من الوصول إلى تسوية في محطات عدة، ولماذا ما هو مسموح للسنّة والمسيحيين غير مقبول مع الشيعة؟
ـ تاسعاً، عُقدت في مراحل مختلفة طاولات حوار عدة، وقد نجحت بالاتفاق على مواضيع محدّدة واختلفت حول أخرى، فيما الطبق الرئيس المتعلق بالاستراتيجية الدفاعية بقي ضمن المسائل الخلافية، وما لم تحلّ هذه المسألة سيتواصل النزاع في لبنان فصولاً. وعلى رغم معرفة مدى صعوبة الوصول إلى تفاهم حول هذه المسألة وغيرها، فإنّ هذا لا يجب ان يمنع من الدعوة الى حوار مفتوح، لأنّ من دون حوار فالأزمة ستراوح، ويُخطئ من يعتبر انّ الحوار يصبّ في مصلحة الحزب، بل من مصلحته ان يستمر الواقع الراهن، فيما يجب حشره في الحوار، والضغط عليه في هذا الاتجاه.
ـ عاشراً، لم تُعقد تسوية «الطائف» سوى بفعل الإنقسام الذي كان قائما وولّد حرباً أهلية، ولم يكن ممكناً إنهاء الحرب سوى بتسوية قد تكون «اتفاق الطائف» نفسه او أسوأ بقليل أو أفضل بقليل. ويستحيل إنهاء الأزمة الحالية التي خرجت إلى الضوء مع خروج الجيش السوري من لبنان، سوى بتسوية جديدة. ولا شك في انّ «الطائف» يشكّل نقطة ارتكاز أساسية في هذه التسوية على غرار ما شكّله دستور العام 1943 في تسوية «الطائف». ولكن من يتجاهل هذا الواقع ويرفض التسوية ويتمّسك بـ»الطائف»، يتحمّل مسؤولية استمرار الأزمة حتى قيام الساعة. لأنّ لا حلّ على قاعدة تسوية لم تُطبّق، ولا حل بتجاهل إشكالية حقيقية مع شريحة واسعة من اللبنانيين، يجب الاستماع إليها ومحاورتها ومحاولة الوصول معها إلى قواسم مشتركة لإعادة قيام الدولة.
وتختم الأوساط الشيعية المعارضة بالدعوة إلى الحوار اللبناني-اللبناني، لأنّ أي تسوية خارجية لن تدوم، وما يدوم فقط هو التسوية بين اللبنانيين، ولا أحد يتوقع الوصول إلى النتائج المرجوة غداً، ولكن هذا الحوار يجب ان يبدأ وعلى المكشوف ومن دون «كفوف»..