يبدو «حزب الله» وكأنّه حجز مقعداً ثابتاً إلى الطاولة، وبدأ ينادي الآخرين: «أنا القوي… فاوِضوني على الصفقة». وطبعاً هو لا يخاطب الشركاء أو الخصوم في الداخل، بل القوى التي هي «أكبر منهم».
بدأت تُسمع في واشنطن اعترافاتٌ مُهمَّة، يتداولها قريبون من الرئيس السابق دونالد ترامب: بعد الاتفاق بين الصين وإيران، كان الرجل على حق في ممارسة «الضغط الأقصى» على طهران، وفي الانسحاب من الاتفاق حول النووي لدفعها إلى الالتزام.
يقولون أيضاً: كان على حقّ في الاحتفاظ بعلاقات جيِّدة مع الرئيس فلاديمير بوتين. فذلك كان ضمانة لعدم نشوء التحالف الصيني- الروسي- الإيراني الذي بدأ يتكوَّن ضد واشنطن بعد مجيء الرئيس جو بايدن ومسارعته إلى إطلاق المواقف المتشدّدة تجاه موسكو.
ولكن، علينا الاعتراف بالخطأ: ثغرة ترامب أنّه لم يتقدَّم في معركته ضدّ إيران عملانياً، بل أبقاها في وضعية الاستنزاف. واكتفى بالضغط على مجموعاتها العاملة في أوروبا وأميركا اللاتينية، وعلى حلفائها في العراق وسوريا ولبنان، ولم يواجه النظام الإيراني مباشرة بما يؤدي إلى إضعافه. وما دام المركز قوياً فالأطراف تبقى قوية أيضاً.
لذلك، بدأ يتبلور اقتناع بأنّ من العبث أن تكتفي الولايات المتحدة بمواجهاتٍ موضعيةٍ مع المجموعات الحليفة لإيران في الشرق الأوسط، وأبرزها «حزب الله»، ما دامت طهران نفسها تتمتع بهامش واسع من التحرك، وعلى تأمين تغطية لهذه المجموعات، بالسياسة والمال والسلاح. ومن العبث الضغط بأدوات داخلية لمعالجة أزمات لبنان وسوريا والعراق واليمن، لأنّ المعطيات الخارجية هي الأساس.
وأكثر من أي يوم مضى، يتقاطع المحلّلون على ضرورة مراجعة السياسة الأميركية تجاه إيران والشرق الأوسط ككل، والتي تميَّزت بالإرباك منذ عهد باراك أوباما. فالإيرانيون استفادوا على السواء من «ليونة» أوباما و»تشدّد» ترامب، وهم اليوم يسدّدون ضربة قوية لبايدن بإعلان اتفاقهم مع الصين، فيما هو غارق في التأمُّل حول خيارات التعاطي معهم.
وسيكون مؤثراً تقارب روسيا مع الصين، بعدما كانت تلتزم مقداراً معيناً من التوازن. والدليل أنّها اضطلعت، في عهد ترامب، بدورٍ فاعل في سوريا، بموافقة أميركية. حتى إنّها نسَّقت مع إسرائيل وتركيا وإيران حدود النفوذ المتاحة لكل منها.
ولكن، مع انعطاف روسيا نحو الصين، ستكون إدارة بايدن مضطرة إلى الاستعانة بتحالفات إقليمية ودولية لتتمكن من مواجهة قطبي «التحالف الشرقي»، الصين وروسيا. وستكون أمامها قوى عدّة، كالاتحاد الأوروبي وإسرائيل والخليج العربي. ولكن، لكل من هذه القوى حساباته ومصالحه في الصراع. وسيؤدي خلط الأوراق التحالفية إلى إحداث تحوُّلات مفصلية في معادلات القوة في الشرق الأوسط والعالم.
ماذا يعني ذلك في لبنان؟
إستخدم «حزب الله» سياسة «السجّادة» العجمية التي تتمّ حياكتها بنَفَس طويل وصبرٍ وأناة. وعلى رغم أنّ قواته تعرّضت لضربات اسرائيلية في سوريا، فإنّه في لبنان بقي يُراكِم القدرات بهدوء.
وفيما كان يُفتَرض أن يقود حراك الشارع والضغوط الدولية، بعد 17 تشرين الأول 2019، ثم بعد انفجار 4 آب 2020، إلى سقوط منظومة السلطة بكاملها، استطاع «الحزب» تمرير المرحلة وتأمين الاستمرار للمنظومة التي يحتمي بوجودها وتحتمي بوجوده.
وكما انهارت سابقاً قوى 14 آذار، وأمسك «الحزب» بالسلطة تدريجاً بعد العام 2005، اليوم تنهارُ قوى 17 تشرين الأول 2019، ويرفض «الحزب» ولادة أي حكومة لا تكرّس نفوذه. وهذا هو عمق المأزق الحكومي، ولا شيء آخر.
لم تنجح العقوبات الأميركية في إضعاف «الحزب». والحصار المالي والاقتصادي أوقع القطاعات كلها في مأزق وأحدث خناقاً لدى الشرائح كافة، فيما بقي «الحزب» يحصل على المال من
إيران وموارد مختلفة. وعملياً، هو وحده القادر اليوم على الصمود، ولفترات طويلة، وسط انهيار البلد.
«حزب الله» هو اليوم في ذروة إمساكه بأوراق القوة: من السلاح وقرار الحرب والسلم، إلى النفوذ داخل المؤسسات والمرافق والقطاعات، إلى التحكُّم بمسار المفاوضات مع إسرائيل والعلاقات مع سوريا وسوى ذلك. وهذا المسار يتيح لـ»الحزب» أن يتحكّم بالاستحقاقات الآتية، أي إعادة تركيب السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وليس «الحزب» مضطراً إلى التفريط بأي من هذه الأوراق، مهما اشتدّت الضغوط عليه، لأنّ خطوط الدعم التي يتلقّاها من طهران تبقى متماسكة. وهو سيستخدم هذه الأوراق للمفاوضة الآتية في المؤتمر التأسيسي الذي يريد منه صياغةً سياسة جديدة للنظام.
«حزب الله» هو الطرف الداخلي الوحيد الذي يضع اليوم شروطه على الطاولة في لبنان، ولا أحد ينتزعها منه. وفي ظلّ المعطيات القائمة، ستطمح القوى الإقليمية والدولية إلى مفاوضته. وهذا ما فعله الفرنسيون عندما أفسح الرئيس إيمانويل ماكرون مكاناً لـ»الحزب» في مبادرته، في قصر الصنوبر.
وإذا لم يطرأ في النهج الأميركي أي تغيير، فستكون إيران قادرة على المفاوضة بقوة، مباشرةً ومن خلال حلفائها في الشرق الأوسط. وسيكون «حزب الله» قادراً على طرح الشروط ومفاوضة القوى الإقليمية والدولية من موقع القوة، فيما طموح أي قوة محلية أخرى أن تحافظ على رأسها، أو زعاماتها ومصالحها، لا أكثر.