في حوارٍ تلفزيوني بدا وليد جنبلاط وقد ربَت لحيته بسبب الأوضاع التي سببتها الجائحة، لكنه علق مازحاً بأن تربية الذقن يتطلبها الوضع الحالي لأننا في لبنان نبدو وكأننا بإيران، وربما – يقول جنبلاط – تعبد ذقنه الطريق نحو نيل «القرض الحسن» الذي يديره «حزب الله». علق نصر الله على جنبلاط مرحباً به في عوالم القروض الحسنة بشرط رهن الذهب أو إحضار الكفيل.
المسألة لم تعد نكتة وإنما حقيقة صادمة وصارخة. «حزب الله» اليوم يحتل لبنان ويضع اللبنانيين رهينة له بقوة السلاح. والخطة التي يقودها الحزب لا تقوم فقط بظلم الشعب وإنما بظلم المدن والأقاليم. لم تبق إلا مناطق معدودة لم يحاول الحزب تفكيك أثرها التاريخي. ثمة تغيير ممنهج لتحويل بيروت وما حولها لتكون مرصعة بصور العمائم بعد أن كانت تعبر فعلاً عن لبنان المتعدد والمنفتح والحر.
لم تكن فضيحة صادمة تلك التي نشرتها وكالة «رويترز» عن استعداد «حزب الله» وتهيئته لحزبه وكوادره ومحيطه وفعالياته لما هو أسوأ، وأنه يعد العدة قبل الانهيار الكامل للدولة، بل متوقعة. تحدثت المصادر للوكالة أن الحزب أصدر بطاقات تموينية هدفها مساعدة الأعضاء في الحزب على شراء المواد الأساسية بالليرة اللبنانية، وأن المواد قادمة من سوريا وإيران وبعضها لبناني تتاح بخصم يصل إلى 40 في المائة، وبحسب الوكالة فإن «البطاقة التي تحمل اسم إمام شيعي موجودة في تعاونيات بعضها جديد في ضواحي بيروت الجنوبية وأجزاء من جنوب لبنان حيث نفوذ الحزب».
«حزب الله» ينفذ الخطة «ب» ليكون أول المعلنين عن قرب انهيار الدولة بعد أن انهار النظام المصرفي والمالي وبعد أن دكت الأزمة اللبنانية مفاصل الاقتصاد في أنحاء البلاد، ولديه القدرة الأكبر على المستوى العسكري ولديه طرقه في تخزين المواد النفطية والغذائية والدوائية.
والحزب لم ينكر ذلك بل اعترف بالتهريب وذلك على لسان صادق النابلسي، وهو ذو صفة دينية؛ إذ نقل موقع «جنوبية» أن هذا الشخص قال في مقابلة تلفزيونية إن التهريب جزء لا يتجزأ من عملية المقاومة والدفاع عن مصالح اللبنانيين، مبرراً ما يحصل بأنه تحت تأثير الضغط الأميركي، والعقوبات الأميركية، فعلى الشعبين اللبناني والسوري كسر بعض القوانين من أجل تأمين احتياجاتهم المعيشية. هذا اعتراف صريح بما يقوم به الحزب من تهريب وسرقة لقمة اللبنانيين وإعلان الحرب على المجتمع اللبناني المحاصر بقوة سلاح هذا الحزب الأصولي والدموي الإرهابي.
لدى الحزب هواجس من تفكك قواعده الشعبية التي فقد الكثير منها بعد «ثورة تشرين»، إذ تحركت الجموع حينها في قلب قواعده ومعاقله معترضة على فساد الطبقة السياسية.. فساد كان فيه «حزب الله» فاعلاً ومشاركاً ومهندساً لكثير من الصفقات المشبوهة.
إن استراتيجية التهريب هذه تأتي منسجمة مع ثقافة الانعزال التي رسخها «حزب الله» بين أنصاره، وهذه البطاقات تثبت صحة ما كتبه نقاد «حزب الله» منذ ثلاثة عقودٍ.
لم يعتبر الحزب يوماً لبنان وطناً نهائياً له، ولم يفِ بشروط التعاقد الاجتماعي، ولم يعترف بالدستور اللبناني، ولم يحتكم إلى مفهوم الدولة اللبنانية قط، هذا ما جعل البطريرك الراعي ينفجر غاضباً من «حزب الله» أخيراً لأنه لا يعترف بالدولة وقرارها في الحرب والسلم، وأزيد ولا في الحوار والتفاوض ولا بالمواطنة ولا بالقانون. إن هذا الانعزال الكارثي الذي تشرحه بوضوح ثقافة التخزين والتهريب تبين أن «حزب الله» «في لبنان» ولكنه ليس «من لبنان» وتلك المسافة بين الموقعين تحضر كل أساليب التدمير لوجه لبنان الحضاري والثقافي والليبرالي لصالح وجوه مقفرة ترهقها قترة لجموع من الإرهابيين والقتلة.
في عام 1998 ألف أستاذ العلوم الاجتماعية ابن بنت جبيل ومن عمق الجنوب وضاح شرارة كتاباً بعنوان «دولة حزب الله – لبنان مجتمعاً إسلامياً» وصدر عن دار النهار، لم يكن الحزب حينها قد أخذ تغلغله المطلق في السياسة على النحو الذي حدث بعد اغتيال رفيق الحريري، وما كان النقاش حول سطوة «حزب الله» قائماً بمستوى نزعات النقد والتمرد على النفوذ السوري الأمني والمخابراتي والسياسي في لبنان، والواقع أن خطة انقضاض الحزب على مفاصل الدولة بدأت منذ الثمانينات وهذا مشهود بأحاديث تلفزيونية لحسن نصر الله، وبتنظير مكثف لملهمي الحزب ومن بينهم محمد حسين فضل الله الذي تحدث عن «الجمهورية الإسلامية في لبنان» في معرض حواراته وسجالاته مع المطران جورج خضر، لاحقاً جُمع الحوار في كتاب بعنوان «في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي» طبع في يناير (كانون الثاني) 2005. والكتاب شكل حدثاً داخل الحركات الأصولية لأنه أيقظ انبعاث النفوذ الأصولي بدولة مثل لبنان أغنى البلدان العربية بالتعددية، والبلد الذي حفظت عبره هوية المسيحيين العرب، حينها فهم الجميع أن كلام فضل الله هو مشروع «حزب الله» لأن الكثيرين يرون في «المرشد الروحي لحزب الله» كما هو توصيف أحمد الموصلي لفضل الله في موسوعة الحركات الإسلامية التي كتبها.
بعض المحللين يرون في تفعيل «حزب الله» للخطة «ب» للاستعداد للأسوأ رغبته في الاستيلاء على الدولة، والواقع أن هذا بمثابة تحصيل حاصل، الدولة بالنسبة لـ«حزب الله» مثل الطريدة الهزيلة يمكنه صيدها في أي وقت، علماً بأنه يهيمن على جميع القرارات الداخلية بما فيها تكليف رؤساء الحكومات، لكن الأخطر بهذه العملية أن الحزب يقوم فعلياً بصناعة سفينة نجاة له هو ولأنصاره فقط ويقوم بشفط مواد اللبنانيين وتحويلها إلى قناته، ومن ثم فليذهب بقية اللبنانيين إلى الجحيم. هذا الوجه الكالح للحزب لم يره كثير من المسلمين الذين ظنوه قوة مقاومة لإسرائيل، وهذه حال من لم يستبن النصح إلا ضحى الغد.
واحد من المصادر المسؤولة ذكر لـ«رويترز» أن «حزب الله» يريد القيام مقام الدولة، هذا صحيح لو أن الدولة قادرة على تحمل الأعباء وإدارة القرارات وصناعة التنمية، لكن ما سببه «حزب الله» للبنان من دمار وويلات وحروب وتهجير واضطهاد للأديان والأقليات الأخرى يجعل الصراع معه أشمل من نزاعٍ على الدولة، إنه صراع وجود ونفوذ، ولذلك يسخر نصر الله في كلمة له من عبارة «وجه لبنان الحضاري».. يقولها بطريقة ساخرة، إنه يريد لبنان ملحقاً بإيران، ويعني إعادة البلد إلى العصر الحجري أو ما عرفه نصر الله بما يمكن وصفه بمشروع «الزراعة الإسلامية»!
إنها معركة حامية الوطيس يجب أن تستمر ضد «حزب الله»، لأنه يمثل ذروة الشر المحض، ونموذجاً للإرهاب السياسي الأصولي المركب، لذلك فهو التنظيم الأصولي الأكثر خطورة في العالم.