Site icon IMLebanon

ترتيب الأولويات ضرورة وجوديّة

 

اختلف اللبنانيّون بعد ثورة 17 تشرين حول الأولويّات التي انبروا للمطالبة بها. لكن من المهمّ ترتيب هذه الأولويّات حتّى يستطيع الشعب اللبناني مجتمِعاً الوصول إلى مطالبه كلّها. والمفارقة في ذلك أنّ شارع الثورة بنفسه مختلِف في أولويّاته بين اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، ونقديّة، وغيرها. كيف تترتّب هذه الأولويّات؟ وهل يستطيع اللبنانيّون الوصول إلى سلّم من الأولويّات منظّم وفق ترتيب يحفظ لكلّ شخص بشري لبنانيّ حقّ الوصول إلى ما يصبو إليه؟

 

لا تبدو هذه المسألة مسألة مستحيلة أو حتّى صعبة. إذ لا يمكن لأيّ وطن أن يتقدّم سياسيّاً إن لم يتحرّر سياسيّاً من أيّ سيطرة تكبّل تقدّمه. والتحرّر السياسي يليه تقدّمٌ في الميادين كافّةً. لكن أوّلاً، على اللبنانيّين تحديد أولويّاتهم، وترتيبها قبل المطالبة بها عشوائيّاً، كي لا يصبح كلّ شارع ثورة على حدة، وكي لا تصبح الثورة ثورات، وتنتهي بتحوّلها إلى مجرّد حراك شعبي لا قدرة لديه على التغيير.

 

هذا بالنّسبة إلى الثورة والنّاس بشكل عام الذين هم غير منظّمين ومكودرين ضمن أطر سياسيّة حزبيّة واسعة. أمّا بالنسبة إلى الأحزاب اللبنانيّة فبالطبع ليست جميعها صالحة وغير فاسدة. أو لنكن موضوعيّين، في كلّ منها فساد في مكان ما، لكن الفارق بينها أنّ بعضاً منها قد أسّس هيئات للتفتيش ومجالس للمحاسبة فيها لمكافحة أيّ ظاهرة فاسدة أو شاذّة عن القاعدة العامّة لخطاب الحزب. وهذا ما ميّز بعضها عن بعض. ويُسَجّل للأحزاب العقائديّة قدرتها على ضبط مناصريها ومحاسبتهم. من هنا، لا تنطبق مقولة ” كلّن يعني كلّن” على الأحزاب السياسيّة كلّها. إذ يبدو هذا الشعار ناقصاً، وبحاجة إلى استكمال ليصبح “كلّن يعني كلّن للمحاسبة”. ومَن تَثبُتُ إدانته فليحاسَب، وليقصَ من الحياة السياسيّة بالمطلق. أمّا أن نعمّم هكذا بطريقة نساوي فيها الطالح بالصالح فهذه خطيئة لا يجوز ارتكابها.

 

بناء عليه، يبدأ ترتيب الأولويّات من تحصين البيت الدّاخلي لكلّ فريق سياسيّ. وهذا ما أشرت إليه في تنظيمات بعض الأحزاب التي تعتَبَر حديديّة. وهذا ما تفتقده الثورة بأطيافها كلّها حيث تغيب المحاسبة عند أفرقائها. من هنا تتفرّع الخطابات السياسيّة وتتوه الأولويّات. لذلك تبرز الضرورة في تحديدها انطلاقاً من المواقف التي يجب اتّخاذها من القضايا الاشكاليّة التي تمنع قيام الدّولة وتسلبها هيبتها.

 

ولا يمكن لأيّ دولة أو كيان، حتّى لو كان كياناً تجاريّاً أو مؤسّساتيّاً، أي كشركة تجاريّة، أن يتنظّم إن لم يكن سيّداً على نفسه، وعلى العمّال المنضوين فيه كلّهم من دون أيّ استثناء؛ مع ضرورة تطبيق مبدأي المساواة والعدل بين جميع المنضوين تحت لوائه. فكيف بالحريّ إذا كان هذا الكيان دولة؟ من هنا، تبرز أهميّة السيادة التي من دونها لا يمكن تطبيق مبدأي العدل والمساواة. والأكثر من ذلك، إذا ما كانت السيادة مسلوبة بفعل القوّة، وتحديداً هنا، قوّة السلاح. بذلك يُبطِل السلاح مفعول القانون، وينتفي مبدآ العدالة والمساواة لصالح الأقوى الذي يملك هذا السلاح.

 

وهذه هي حالة لبنان مع “حزب الله” المسلّح فيه. هذا الحزب الذي سلب الوطن أهمّ مقوّمات وجوده أي السيادة. وهذا المبدأ الذي يُسأل عنه شارع الثورة أوّلاً: ما موقف هؤلاء كلّهم من قضيّة وجود “حزب الله”، الحزب العسكري المسلّح الذي سلب بقوّة سلاحه سيادة الدّولة ومنعها من الاحتفاظ بحصريّة قراري الحرب والسلم؟ وهذا السؤال لا تُسأل الأحزاب السياسيّة عنه لأنّها واضحة بالنّسبة إلى هذا الموقف. منها مَن اختار أن يكون عميلاً وفيّاً لهذا الحزب ولسلاحه ومشروعه، ومنها مَن يواجهه في كلّ لحظة.

 

من هذا المنطلَق تترتّب الأولويّات التي يجب أن تبدأ بالسيادة. وهذا ما سيؤدّي إلى تحرير الدّولة سياسيّاً من هيمَنة السلاح بالانقلاب على الديموقراطيّة بالترهيب والترغيب؛ كما حصل في 6 شباط 2006 ترغيباً، وفي 7 أيّار 2008 ترهيباً. وبعد إنجاز عمليّة التحرير على مستويين:

 

– السياسي المتمثّل بسيطرة الحزب على الأكثريّة البرلمانيّة.

 

– العسكري المتمثّل بسيطرة الحزب عسكريّاً على الدّولة بقوّة وهج سلاحه الذي يكرّس القرار الايراني في لبنان، عندها فقط نستطيع تطبيق أيّ إصلاحات نرتّبها في سلّم أولويّات بحسب حاجة النّاس إليها.

 

لذلك كلّه، لا تبدو عمليّة ترتيب الأولويّات عمليّة مستحيلة أو حتّى صعبة بل المطلوب أن تتوافر الإرادة الوطنيّة الاصلاحيّة. وليس الارادة النّهمَة للسيطرة على السلطة، بُغْيَةَ الوصول إلى المراكز لتحقيق المكاسب الشخصيّة. يعني على قاعدة المثل الدّارج: “قوم تَ إقعد مطرحَك”. لذلك، لا يمكن التّعويل على عديمي الخبرة السياسيّة لأنّ الأوضاع التي نحن فيها، في المجالات كافّة، لا تسمح بأن يكون لبنان حقل تجارب لعديمي هذه الخبرة. بل المطلوب هنا أن يتولّى زمام الأمور مَن يملكون تاريخاً ناجحاً وناصعاً في العمل السياسيّ بعد إجراء المحاسبة الجماعيّة في صناديق الاقتراع. وعندها فقط، فليحكم الذين تفرزهم صناديق الاقتراع.