عندما انسحبت الولايات المتّحدة من أفغانستان، سالت الأقلام تبشّرنا بعهد لبناني جديد يخضع فيه لبنان لإيران وحزبه “المقاوم”. وكثرت المقالات التي استلمتها من جهات مختلفة، تؤكد أنّ أميركا وضعت لبنان في عهدة إيران وحزبه. قلت في حينه وأعتذر للتكرار: فشر. نحن شعب وضعنا للشعوب قواعد الحضارة.
كان وطننا مدرسة الشرق وجامعته، ومستشفاه، ومصرفه، وملجأ إنسانه المضطهد إلى الحريّات وحرية الكلمة. لا ندّعي أنّنا سنظل مدرسة الشرق وجامعته ومستشفاه، لكننا سنبقى حتماً وطن الحريات. لبنان ليس كأي وطن آخر، ففيه قيم لا تذبل ولا تموت بل تمنح شعبه الحياة لأنها من صنع السماء، حتى قيل عن لبنان انّه طائر الفينيق. خضع شعبنا إلى مئات السنين من الخلافة الإسلامية لكنه لم يتحول رغم ذلك، بلداً مسلماً وإنما ظلّ التنوع الحضاري سِمته. وهكذا سيبقى.
وقد سبق المبشّرون بالمدرسة الإيرانية مؤتمر العراق لتبشيرنا مجدداً بهذه الأفكار. وذهب بعض إعلاميي هذه المدرسة إلى اعتبار “الحذاء الذي ينتعله وليد جنبلاط يفهم بالسياسة أكثر من الكثير ممّن يدّعون فهم العمل السياسي”.
كل ذلك لأنه دعا إلى الجلوس إلى طاولة للتسوية. نعم السيد وليد جنبلاط خبير في شؤون السياسة، ولكنه لم يكن يدّعي صناعة القرار الوطني. من يصنع القرار الوطني اللبناني حالياً، مقيم في بكركي فاسمعوه جيداً.
يكفي أن يكون إعلاميو مدرسة إيران من يتغنّون بالسيد جنبلاط لنفهم أيّ خدمة يقدّمها لهذه المدرسة. فالتسوية عنوان لا أكثر، لإقناع الغرب بأنّ إيران قدر في هذا البلد. المدرسة إلإيرانية لن تسمح بأيّ تسوية لا تحتفظ بالشعار الذهبي للإحتلالين السوري والإيراني: الجيش والمقاومة والشعب، حيث لا مكان للدولة، بل تبقى الدويلة هي القائم على زمام الدولة وعلى رقاب العباد فيها.
نحن لا نتحدث بالسياسة بل بصناعة القرارات الوطنية التي تنقذ لبنان من هذه الحالة المريعة التي يعيشها.
لبنان ليس بحاجة لتسويات بل بحاجة للحريات والسيادة والإستقلال. نحن بحاجة لأن يقوم المجتمع الدولي بتنفيذ قراراته العديدة بشأن لبنان، بدءاً من إتّفاقية الهدنة لعام 1949. كما أنّ اللبنانيين لن يقبلوا أيّ تسوية على حساب دستورهم وميثاقهم الوطني.
فهل من تسوية مثلاً بين العلمانية التي يبشّرنا بها حزب السيد جنبلاط، الحزب التقدمي الإشتراكي، والتبعية لولي الفقيه التي يبشّرنا بها حزب إيران؟
ربمــا أن السيد جنبلاط المعــروف بعلاقته وعلاقة بيت جنبلاط التقليدية مع فرنسا، أراد تسوية لمصلحة إقامة حكومة كما كان يطالب بها الرئيس الفرنسي ماكرون.
وهذا أمر مختلف. هو يخدم فرنسا لا حزب إيران.
فالسيد جنبلاط يعلم تماماً أنّه لن تكون هناك تسوية في دستور النظام اللبناني ما لم تخضع لشروط حزب إيران وإيران.
نحن نخضع للإحتلال المقنّع الإيراني، ومن المؤسف أنّ قسماً من أهلنا الشيعة الذين ساهموا في إقامة هذا الصرح الوطني ونظام الحريات فيه، يساندون هذا الإحتلال. هم أنفسهم، أسقطوا شعار “المقاومة” كحجّة لمواقفهم الداعمة له، وأعلنوا صراحة أن البعد الطائفي هو الذي يقيم موقفهم، وخاصة عندما اندفعوا ضدّ أهل ثورة 17 تشرين، يصرخون:”شيعة شيعة”.
وكالعادة، استعجل طلاب المدرسة الأصولية الإيرانية، إلى تقديم القراءات المحبطة لعزائم اللبنانيين عندما راحوا يبشّرون بأنّ انعقاد مؤتمر في العراق الذي يجمع الدول الإقليمية الناشطة على ساحتنا العربية، هو تسليم لدور إيران في المنطقة، وتوزيع للأدوار بين هذه القوى.
ربما أن الدور الفرنسي وتحديداً دور الرئيس ماكرون، الذي يبدو محابياً لإيران، دفعهم إلى ذلك. غابت أميركا وكذلك الإتحاد الروسي والصين، فهل يعني أنهم غير معنيين بهذا المؤتمر؟ غابت سوريا وغاب لبنان وكذلك اليمن وليبيا وإسرائيل فلماذا؟
أنا أعتقد أنّ ثمة محاولة أميركية وفرنسية وروسية وصينية أيضاً، لترطيب علاقات دول الخليج العربي مع إيران وتركيا، وفي ما بينها. وكل ذلك بهدف تسوية كل القضايا الإقليمية العالقة. وقد تمّ المؤتمر في العراق ليكون رسالة واضحة إلى إيران أولاً، ثم إلى الدول الباقية. فهذه الرسالة تقول: إنّ حكومة العراق التي تبدي حيادية في سياستها الخارجية، وتعمل على إستعادة العراق للعراقيين، تحظى ليس بالدعم فحسب، بل تشكّل النموذج للحكومات العربية الأخرى”.
فرنسا التي ساهمت بإقامة المؤتمر، حملت هذه الرسالة للدول الكبرى إلى كل تلك القوى الإقليمية. قلنا ونكرر، إنّ المواقف الإيرانية والتركية التي خدمت خدمة كبيرة مشروع الشّرق الأوسط الجديد، لا تعني أنّها ستجعلها شريكة في حكم شعوب دول هذه المنطقة، بل شريكة في المغانم الإقتصادية المتوقعة من هذا المشروع الجديد.
حتى الدول العظمى لا تطمح أن تقوم بممارسة السلطة على هذه الشعوب، بل بممارسة دور الراعي لقيام الشّرق الأوسط الجديد واستمراره. فإلى الذين يعتقدون أن مثل هذه المؤتمرات ليست سوى اعتراف لإيران بالشراكة في إدارة دول وشعوب هذه الدول، أقول: هذه المؤتمرات هي جزرة لإيران لإقناعها بالإرتقاء إلى واقع العولمة، والخروج من عقليّة الصراع الشيعي ـ السنّي، وحلم بناء الإمبراطورية الفارسية. لقد تمّ استخدام العامل الديني بنجاح، لكن لإنهاء العامل القومي العربي، وقد تحقق ذلك.
أما غير ذلك من علاقات بين دول المنطقة، فسيبقى في إطار الإحتياجات التي تقيمها العولمة، وتحديداً المصالح الإقتصادية لأعضاء المجتمع الدولي.
وعندما نفهم مفهوم العولمة الذي يتطور منذ بداية التسعينات، يمكن عندها أن نقرأ بشكل صحيح ودقيق مسيرة التطورات الجارية في منطقتنا.
هذا ولا بد من الإشارة إلى الرسالة التي وجهتها إسرائيل أيضاً إلى إيران قبل غيرها، عندما قصفت طائراتها دمشق من جنوب شرق بيروت الخاضعة لحزب إيران في لبنان. فكيف ينسى من يبشّرنا بقبول العالم إخضاع لبنان إلى حكم إيران بأن إسرائيل تقبع على حدود لبنان؟ هل لدى إيران إتفاقيّات سرّية لا نعرفها، تلغي دور حزبها “كمقاومة” مزعومة وترفع بدلاً منه دور “حرس للحدود”؟ لا إسرائيل بحاجة لهم ليكونوا حرس حدود، ولا العالم. العالم بحاجة لحكومة حيادية في لبنان كما في العراق، تلعب دوراً ناشطاً في بناء السلم في الشّرق الأوسط الجديد. وهل أفضل من لبنان للعب هذا الدور؟
إلى الإعلامي الذي أقحم “الحذاء” الذي يرتديه مسؤول سياسي في قاموس الصراع الفكري في لبنان، أقول له ان لا عجب من ذلك فمن يصنع فكر أمثالك، هي هذه “الأحذية” التي داست على كرامتنا الوطنية منذ عام 1969. أنت والسياسيون أنفسهم، بنات فكر الإحتلال الذي دمّر الكيان السياسي للبنان حتى الآن، والذي لن يمكنه أبداً رغم ذلك، أن يأخذ منه قيمته التاريخية وميزاته الإنسانية. لبنان سيعود درّة الشرق.