تمرّ الشعوب خلال مساراتها التاريخية بنكساتٍ كبيرة وبمراحل مصيرية وتهديدات وجودية، قد تكون داخلية او خارجية او حتى مترابطة بعضها ببعض بحساباتٍ سياسية مرحلية او عضوية، خاصةً عندما تكون الشعوب الموُلِّفة للوطن مُركّبة من عدة فئات، بفسيفساءٍ إجتماعي وثقافي، وتتعايش مع بعضها البعض ضمن توازناتٍ دقيقة. وهذا هو الواقع الحقيقي للشعب اللبناني المتواجد ايضاً في محيط تتحكَّم به الروابط الطائفية والمذهبية والقومية والإثنية والعقائدية، وليس الروابط الوطنية، فتقع الانتماءات فيه تحت ما سماها الدكتور نبيل خليفة في كتابه الإستراتيجية اللبنانية “بالايقنة”، وهي العمق في العلاقات الروحية والمادية التي تؤلِّف اللحمة الجوهرية للمجموعة البشرية.
وبمراجعة شاملة لتاريخ الشعوب الأكثر نجاحاً والتي تتبوأ حالياً قيادة الإنسانية في هذا الزمن المُتطوِّر والمُتقدِّم علمياً، نتأكّد ان تاريخها مليء بالنزاعات والحروب الاهلية، والغزوات المتبادلة والتداخلات بين اجنحتها المختلفة، المتبنّية احياناً لمشاريع أُمميّة او انعزالية، او استعمارية، او توحّدية او انفصالية، ونادراً ما لحظنا شعباً إستطاع تجنُّب المآسي والمواجهات والإنقسامات والمسارات الحامية. ولكن من الجدير ذكره ان هذه الشعوب إستفادت من دروس التاريخ، وساعدها ذلك على عدم الوقوع في المحظور مجدّداً وتكرارها لمحطات التاريخ الأليمة والسوداء ودفع الأثمان الغالية وتعريض مواطنيها لدروب النار مرّةً بعد مرّة. إن نجاحها بتنظيم شؤونها وعلاقاتها بين بعضها البعض من ضمن صيغٍ متوازنة وعادلة وقوانين نافذة ومؤسساتٍ رسمية قادرة على اجتراح العلاجات ووضعها في الفرن لإنضاجها او في الثلاّجة لحفظِها، قد أكسبها الثبات والإستقرار والتطور والقيادة.
بالمقابل، من المُستغرب فعلاً ان الشعب اللبناني الذي نجح في الكثير من المجالات، لم يتمكّن من الوصول الى هذه المرحلة من النضوج، بالرغم من تجدّد أجياله وإنفتاحها على المجتمعات الحضارية المتعدِّدة، غرباً وشرقاً، واحتكاكها بأنظمة متعدِّدة منها، الديموقراطية ومنها المنغلقة. وبالرغم من كل ذلك، تبقى بعض الأطراف اللبنانية غير مُدركة لغنى تاريخها بالدروس الخاصة بعلاقات الحضارات والمجتمعات، فلم تعمل على وضع الحلول المبنية على التشخيص الصحيح منعاً للعودة الى النكسات، بل تلجأ مجدّداً الى مجازفة جديدة، تتشابه بالاسلوب الإلغائي مع مغامراتٍ سابقة كان مصيرها الفشل.
إنّ محاولة “حزب الله” الحالية لإستكمال فرض تصوّره على اللبنانيين، بإتكاله على التفرّد بالسلاح واستعمال القوة، تدلّ على إنّه لم يتّعظ من فشل محاولات النظام السوري من قبله والمشروع الفلسطيني سابقاً، لمُصادرة الإمرة والسلطة. وطالما يقرأ “حزب الله” في كتاب العسكرة والسلاح والأمن والقتال، ويرفض القراءة في كتاب حوار الحضارات، فسيبقى مسجوناً في وهم قوة السلاح، وفي قصره الكرتوني المُنشأ على ارضٍ رملية متحرِّكة. وإنّ استمراره بمحاولاته الفرضية سيؤدِّي الى، إمّا مواجهاتٍ ونزاعاتٍ وحوادث طويلة الأمد وكثيرة المحطّات، وإمّا الى الدخول بحروبٍ إلغائية لن تنتهي إلا بإنهاء لبنان، وإمّا الى توازن قوى تخدم الخارج وتستنزف الداخل، وبكل الأحوال يبقى المُستفيد الأوحد من ذلك أعداء الوجود اللبناني، العدو الرسمي والعدو غير المُعلن، اي عدو الصيغة وعدو الهوية.
الإتّعاظ مطلوب من قبل “حزب الله” بتخلّيه عن مشروعه لتحويل لبنان قاعدة عسكرية محكومة من جمهورية إسلامية إيرانية، وبتوقّفِه عن محاولات إنجاح عقيدته وتطبيعها لبنانياً، والمشاهد التي ظهرت الى العلن الاسبوع الماضي تؤكد ان الخسارة ستكون شاملة.
الإتعاظ يتحقّق بقبول الآخر والإعتراف بوجوده، وشروط ذلك، احترام حياد لبنان.