IMLebanon

ما الذي يُربِك «حزب الله» في الطيونة؟

 

 

منذ العام 2005، لم يواجه «حزب الله» تحدّياً مصيرياً كما هو اليوم. فهو تقدَّم صاروخياً، منذ ذلك الحين، وهزم خصومه السياسيين، وأحبط المحاولات الدولية لإضعافه، ثم أسقَط انتفاضة 17 تشرين، ورسَّخ منظومة السلطة التي يقيمها. لكنه اليوم يتلمَّس مواجهة حساسة. وعلى رغم السقف العالي الذي رفعه الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله، ليس واضحاً إذا كان سينحني لإمرار العاصفة الجديدة أو سيقاتل.

 

بعد حادثة الطيونة، كل القوى المعنية تُراجع حساباتها بدقّة. «القوات» بالتأكيد، والرئيس ميشال عون وفريقه السياسي، وقادة السنّة والدروز، ولكن أيضاً وخصوصاً «حزب الله»، لأنّ الخطأ الذي يُرتكب هنا مُكلف جداً.

 

لا يمكن الفصل بين ما شهدته البيئة المسيحية في عين الرمانة، وما سبقه في البيئتين السنّية والدرزية مع «الحزب»: الأول من آب، حين اغتيل المسؤول في «حزب الله» علي شبلي في خلدة، «ثأراً» لمقتل الشاب حسن غصن قبل عام. وبعد 5 أيام، حين تصدَّت حشود من أهالي شويا الجنوبية لعناصر من «الحزب» مزوّدين براجمة صواريخ، لأنّهم أطلقوها على مزارع شبعا من البلدة.

 

إذاً، خلال أسابيع قليلة، خاض «الحزب» مواجهة مثلثة، غير مسبوقة نوعياً، ولها مغزاها المذهبي والطائفي. لكنه لم يتحرّك جدّياً إلّا بعد الحادثة الثالثة، ليس فقط لأنّ الوقت قد حان ليدافع عن موقعه وصورته، بل خصوصاً لأنّ المواجهة مع «القوات» هي الأكثر جدّية.

 

العارفون يقولون: ليس «الحزب» في وضعية التأهّب للردّ، وإن كانت مواقفه توحي بذلك، بل في وضعيةٍ أقرب إلى التأمُّل ومراجعة الحسابات. فـ»الحزب» أذكى من الوقوع في فخّ الردّ المتسرِّع. وهو يقرأ المجريات استراتيجياً قبل التصرّف، ولا بدّ أنّه استمع إلى قراءات الخبراء لنتائجها البالغة الأهمية أمنياً وسياسياً، وخلاصتها ما يأتي:

 

حادثة خلدة خلقت مناخاً ساهم في حادثة شويا. والحادثتان ساهمتا في خلق المناخات المؤاتية لحادثة الطيونة. وهي جميعاً مرشَّحة للتمهيد لحوادث معه في مناطق أخرى. ولذلك، يتأنّى «الحزب» كثيراً في اللجوء إلى أي خطوة، على رغم قول مسؤوليه إنّه «لن ينام على ضيم».

 

«الحزب» البارع في المعارك وتحقيق الإنتصارات، يدرك أنّ الانتصار مرهون دائماً بالتوقيت وباكتمال الشروط. وفي تقدير العارفين، أنّه سيتجنّب فتح معركة سياسية مثلثة مع السنّة والدروز والمسيحيين، وسيعمل لاستفراد كل فئة من خصومه على حدة: سيحاول استيعاب الحريري وجنبلاط بالترغيب. وغالباً ما نجحت تجاربه في هذا المجال. وأما مع الدكتور سمير جعجع، حيث تتعذّر الإغراءات، فالخيار هو التهديد. وهذا أيضاً جرت تجربته سابقاً.

 

ولكن، سيتجنّب «الحزب» خلق مواجهةٍ أمنية أو عسكرية مع البيئات المسيحية والسنّية والدرزية في آن معاً، لأنّ ذلك سيهدّد أمن البلد عموماً، وسيضطره إلى خوض معارك بدائرة 360 درجة، في الضاحية والجبل وسواهما. والأخطر بالنسبة إليه هو قطع طريقيه من الضاحية إلى «الحزب» والبقاع، لأنّ فتحهما يستلزم منه تنفيذ خطوات عسكرية قاسية.

 

ويشبّه بعض الخبراء وَضْع «الحزب» بوضع الفصائل الفلسطينية في لبنان عشية حرب 1975. حينذاك، كانت هي وحدها تمتلك السلاح خارج السلطة الشرعية. وكانت القوى الفلسطينية موزّعة على مناطق مختلفة ومعزولة إلى حدّ بعيد، ما صعّب عليها المواجهات مع بعض الفئات اللبنانية، ولاسيما مع المسيحيين والشيعة.

 

سيحاول «حزب الله» أن يتحلّى بالصبر ويستخدم الحنكة لا القوة العسكرية حالياً. وسيستفيد من نفوذه في صلب مؤسسات الدولة وأجهزتها وداخل القوى والأحزاب السياسية. ولكن، سواء اختار المواجهة أو المهادنة، فإنّه سيحصد الأرباح كما سيتكبَّد الخسائر.

 

يريد «الحزب» أن يضع «القوات اللبنانية» «عند حدّها»، وأن يجعل الأمر درساً للآخرين. وعلى الأرجح، هو سيحاول استعادة سيناريو الاستهداف السياسي لـ»القوات»، الذي تمّت تجربته في مطلع المرحلة السورية، والذي لم يلقَ اعتراضاً عربياً أو دولياً آنذاك. ولكن، هل الفرصة سانحة له اليوم؟

 

وبأي ثمن، سيدافع «الحزب» عن أوراق القوة التي يملكها. وهو يعلم أنّ الإصلاحات التي يضغط المجتمع الدولي لتطبيقها تعنيه تحديداً. ولكن، إذا اضطر «الحزب» إلى اللعب «صولد»، فالمأزق سيكون كبيراً للجميع، لأنّ أحداً لا يضمن أَلّا تتحول السخونة إلى مواجهاتٍ أمنية.

 

والتصعيد يعني حتماً موت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، فيتعمَّق الانهيار عندذاك وتنزلق الدولة إلى مزيد من الاهتراء. وهنا، سيكون أمام المجتمع الدولي خياران لا ثالث لهما في التعاطي مع لبنان.

 

الخيار الأول أن يحافظ اللبنانيون على مقدار من الانضباط في صراعاتهم، بوسائلهم الخاصة، كما هم اليوم. وفي هذه الحال، يتركهم المجتمع الدولي غارقين في اهترائهم إلى أن يستسلموا للحلول الخارجية التي ستفرضها التسويات الإقليمية الكبرى.

 

وإما الخيار الثاني فهو أن ينفجر الصراع الداخلي ويهدِّد المصالح الإقليمية والدولية. وعندئذٍ، يتدخّل المجتمع الدولي ويقرّر وضع اليد مجدداً، من خلال قوة وصاية تُمسِك باللعبة إلى حين ولادة التسويات الكبرى. وهذا السيناريو بات متداولاً بكثرة في الأوساط المعنية.

 

وهكذا، تكون «موقعة الطيونة» محطة مفصلية لانتقال لبنان إلى مرحلة جديدة، يصعب تقدير المدّة التي ستستغرقها، أشهراً أو سنوات. فلا أحد في الخارج مستعجلٌ أو مستعدٌّ لدفع ثمن الاستعجال، وفيها طويلُ العمر وحدَه سينجح في الحفاظ على رأسه. وهنا يكمن إرباك اللاعبين جميعاً في الداخل، وفي طليعتهم «حزب الله».