Site icon IMLebanon

خيارات عدة… أحلاها علقم

 

«أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ و لا أمْرُ؟ بلى، أنا مُشْتاقٌ وعنديَ لَوْعَةٌ ولكنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لهُ سِرُّ! وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ، لإنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدْر وقال أُصَيْحابي: الفِرارُ أو الرَّدى؟ فقلتُ: هما أمرانِ، أحْلاهُما مُرُّ ولكنّني أَمْضي لِما لا يَعيبُني، وحَسْبُكَ من أَمْرَينِ خَيرُهما الأَسْر» (أبو فراس الحمداني)

 

منطق الاحتمالات ونسبة النجاح والخطأ لم يكن في الأساس علماً، بل هو من أهم وسائل البقاء الأساسية عند الحيوانات. فعندما يهاجم الأسد ثوراً أفريقياً مثلاً، هناك ما يجعله يَزن الأمور بين الموت جوعاً أو التعرض لاحتمال الأذية، وحتى الموت خلال النزاع مع الثور. من هنا فإنّ الأسود تهاجم جماعياً، من جهة لتضمن الحصول على الفريسة، ومن جهة أخرى للتخفيف من احتمال الإصابة. علم الإحصاءات حوّل ما هو إحساس مُبهم إلى أرقام ونسَب، وهذا ما يعتبره الفيلسوف مارتن هيدغر حجباً لملكة التفكير عند البشر لاعتمادها على الأرقام من دون تفكير عندما يقرر البشر ما يفعلوه بناء على الأرقام من دون تفكير. ما هو مهم في منطق الإحصاءات هو أنّ من له فرصة كبيرة لينجح في مسعاه، سيَزِن المخاطر من الفشل مع محاسن النجاح، ويدخلها في حسابات معقدة في فكره، مبنية على الماضي والحاضر واحتمالات المستقبل، ومن بعدها يتخذ القرار، وأحياناً يتخذ قراره بنحو ما لمجرد عدم وجود احتمالات أخرى على أساس قول المتنبي «وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ… فمن العار أن تموتَ جَبانا». لكن القرار يصبح ذا طابع أخلاقي عندما يتخذ فرد، أو مجموعة صغيرة، القرار عن آخرين سيتحملون تَبعاته، بينما من اتخذ القرار متحصّن في مكان ما. الإشكال هنا هو أنه ولو كان احتمال النجاح 90 في المئة، فإن الـ10 في المئة متى أتت تصبح عملياً كالـ100 في المئة. لذلك، لا يمكن الركون إلى الحسابات الدقيقة لضمان الأمان، ما دام احتمال خروج الأمور عن المتوقع بـ90 في المئة، من خلال الـ10 في المئة.

 

مالي أنا وهذا الكلام الثقيل، فما أقصده هو أنّ ما حصل في الطيونة، الأيقونة السوداء لحربنا المُستدامة بنسبة تقارب الـ100 في المئة، لم يكن احتمال نجاحه حسبما خطّط له يتعدى الـ50 في المئة، إلا إذا كان من حضر المسيرة ينوي أن يحصل ما حصل من الأساس. لكن، حتى أعتى عتات الفكر، قد تأخذهم العزة ونشوة الانتصار وفائض القوة ليسقطوا في الشطط، لمجرد استنادهم إلى نجاحات سابقة، وإلى اعتبار أنّ الخصم خائف وخانع، أو غير قادر على الرد. الماضي الناجح بالنسبة لـ«حزب الله» يشمل عشرات الانفجارات والاغتيالات وفرض السلطة والخيارات التدميرية على الجميع، من دون رد فعل أكثر من كلام منثور هنا وهناك، من بعضنا المتفلسِف في تدوير الزوايا. هنا كان على الثنائي أن يتوقع أنّ الرد قد يأتي بالطريقة ذاتها التي تصرف بها على مدى سنوات. وقد أتت الإشارات على مدى الأشهر الماضية، من شويا إلى خلدة وصولاً إلى عين الرمانة. يعني أنّ من كان من ذوي الألباب كان سيعرف في شكل واضح تلك الاحتمالات ومخاطرها.

 

هنا قد يقول البعض أنّ شَد العصب المذهبي-الطائفي مصلحة مشتركة بين الطرفين، أي «القوات اللبنانية» من جهة والثنائي من جهة أخرى. وبالتالي، سحب ورقة «كلن يعني كلن» من التداول وتحويلها إلى «نحن وهم» أو «إمّا نحن وإمّا هم». لكن الانتخابات ما زالت بعيدة، وقد تأتي أمور أخرى تخفف من وقع الحدث على العقول. لكن، في المحصّلة، فما حدث أدى إلى سقوط ضحايا. وبالتالي، فإنّ المسؤولية أصبحت في مجتمع قبلي مثل مجتمعنا هو رَد الدم بالدم، أو كما قال نصرالله: «دم شهدائنا لن يذهب هدراً»، فنادراً ما شفى القضاء القلوب، وما يبدو من المعطيات البارزة حتى الآن أن إمكانية حصر الجريمة بطرف من دون آخر صعب. وهنا، كيف سيترجم «حزب الله» وعوده بعدم الانجرار الى حرب أهلية، وفي الوقت نفسه عدم ذهاب دماء الضحايا هدراً؟

 

وهنا المأزق الحقيقي للحزب، في طريقة المضي بهذه القضية. فالرد، إن حصل، سيكون على من؟ وكيف؟ وإن حصل، فما هي التداعيات؟ وهل الاستدراج إلى حلقة عنف مفرغة سيؤدي إلى نتائج محسوبة؟ أو إلى احتمالات لا يعرف عقباها؟ وإن لم يحصل الرد فكيف سيحافظ الثنائي على هيبته، أو لا ضمن البيئة الحاضنة ترغيباً وترهيباً، وضمن البيئات الأخرى التي اعتادت على منطق تلقي الضربات بلا رد؟

 

قد يكون في مكان ما من يريد استدراج مزيد من العنف لدفع مجلس الأمن الى التدخل، وقد يكون نصرالله أصاب في تقديره هنا أن هناك رغبة جامحة عند كثيرين بتغيير قواعد اللعبة الركيكة المستمرة بأحبولة «شعب وجيش ومقاومة»، ولو كنّا مُنصفين فإنّ الثنائي لم يترك مجالاً لتدوير الزوايا ولا للصلح. وحسبما أظن، فكلما ازداد العنف، كلما ذهبت الأمور إلى طرح حلول كبرى من ضمنها طرح حمايات دولية على مناطق مستهدفة، تشبه ما حصل بعد حرب تموز، وذلك تحت شعار حماية فئات من الناس من خطر الإبادة، أو لوقف دوامة العنف.

 

لكن، في المقابل، هناك من طرح احتمال تعادل الدماء. يعني دماء من سقط في «غلطة المرفأ!»، وأكثرهم من طائفة واحدة، مقابل من سقطوا في غزوة عين الرمانة. يعني ختم التحقيق بالشمع الأحمر على أساس تسوية قبائلية يكون القاضي بيطار فيها «كبش محرقة». لكن حتى هنا يبقى الخيار علقماً، فمعناه أن الحكومة أيضاً ستكون كبش محرقة ثانٍ. فإمّا تستجيب لشروط الثنائي بتنحية القاضي لإنقاذ الحكومة من فرط عقدها، وبالتالي تسقط معها كل إمكانية لتعاون دولي لضَخ بعض الدعم وتأجيل المحتوم. أو أن تبقي على مقولة استقلالية القضاء، فتتحجّر المواقف لتصل إلى حد تعطيل الحكومة، إما باستقالة أعضاء منها يسقطون معهم مشاركة طائفة بكاملها، وربما من طوائف أخرى، وبالتالي تعطيل المجلس النيابي على غرار ما حدث عام 2006 بعد إقرار المحكمة الدولية. أو أن يكون التعطيل من دون استقالة بأساليب أخرى واحتجاجات قد تأخذ طابعاً عنيفاً، خصوصاً بعد أن «هدرت» الدماء.

في المحصّلة، الجميع في أزمة، وكل الخيارات أفضلها علقم.