Site icon IMLebanon

اتركوا لبنان لميليشيا «حزب الله»

 

 

هل أبقى لبنان المهيمَن عليه من ميليشيا «حزب الله» خياراً آخر حتى للراغبين بصدق في الوقوف إلى جانبه؟

القرار السعودي الأخير بسحب سفير المملكة من لبنان والطلب إلى سفير لبنان فيها مغادرة الرياض، وما تلاه من قرارات مشابهة من الكويت والبحرين والإمارات، بالإضافة إلى المواقف المستنكرة من قطر وعُمان، توحي بأن المزاج الخليجي خطا خطوة إضافية بالاتجاه الذي يقترحه عنوان المقال.

الجواب الأول الذي يخطر على البال في مواجهة اقتراح الطلاق هو التالي:

وما ذنب بقية اللبنانيين ممن لا حول لهم ولا قوة وهم من الرافضين لمشروع وسياسات الميليشيا الإيرانية التي تحتل قرارهم.

الجواب الثاني الذي يستدرجه هذا الاقتراح عادة، ممن أتحدث معهم من لبنانيين وغير لبنانيين هو:

الخضوع لميليشيا «حزب الله» يبقى البديل الموضوعي الوحيد عن الحرب الأهلية التي ستؤدي إليها مواجهة الحزب. أصحاب هذا الرأي يملكون كل الأسباب الموضوعية لموقفهم من غزوة السابع من مايو (أيار) 2008 لبيروت وجبل لبنان، إلى صدمة الثورة السورية التي انتهت تشرداً ودماراً وأحلاماً مسحوقة.

مع ذلك، فالحقيقة أبسط من ذلك بكثير.

أولاً، إن السلم الأهلي اللبناني هو مسؤولية اللبنانيين لا مسؤولية أي دولة أخرى نيابة عنهم. وأنا من الذين لا يؤيدون مواجهة «حزب الله» عبر سيناريوهات عسكرية أو أمنية تدمر ما بقي من لبنان. ما أقترحه ببساطة أن يُحرم «حزب الله» من رفاهية اللعبة الجهنمية التي يلعبها مع اللبنانيين وبهم، وهي التمتع بكل مكتسبات الحكم من دون أي من مسؤولياته. تعطيل هذه اللعبة لا يتم إلا بتسليم «حزب الله» دفة الحكم كاملة في لبنان، وتركه ليأتي وحده، بلا غطاء من أحد، برئيس الجمهورية والحكومة والوزراء، وأن يحكم بوجه سافر بلا أقنعة مسيحية أو سنية أو درزية إلا ممن يؤمنون فعلاً بمشروعه وسياساته وأهدافه. وأن يرينا ما بوسعه فعله في إدارة لبنان وعلاقاته، لا مع الدول الأخرى، بل مع المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي!

ثانياً، ليس من واجب أي حكومة الحرص على رفاه جزء من الشعب اللبناني، ولو كان مؤيداً لها إذا كان هذا الحرص ينطوي على توفير مخارج لـ«حزب الله» وبيئته الواسعة. قد يكون من الممكن التفكير في آليات مبتكرة تسمح بألا تطال تبعات المقاطعة، اللبنانيين المناهضين لميليشيا «حزب الله»، بيد أن الحكومات تعمل وفق أولويات ضاغطة زمنياً وسياسياً واقتصادياً ولا تمتلك رفاهية تجزئة أزمة علاقتها بلبنان، لا سيما أنه دولة صغيرة جداً في حسابات الجميع وتكاد لا تملك أكثر من رأسمال عاطفي، يبرر الاستمرار بالعلاقة معها.

ببساطة شديدة، لبنان الراهن بوسعه أن يكون مصدر انشغال كثيف للمهتمين به إنما بلا عائدات حقيقية على أي مستوى من المستويات التي بها تقاس مصالح الدول. هذا الاختلال في المعادلة بين كثرة المتطلبات وقلة العائدات هو ما يبرر العزوف عن لبنان ومشاكله، والتركيز حصراً على كيفية مواجهة أذيته بما هو متوفر من أدوات سياسية ودبلوماسية، التي أقلّها المقاطعة الحاصلة الآن، والمتأخرة جداً، والآيلة للتوسع نحو خيارات أخرى.

ثمة من لا يرون ذلك، حتى ممن يخاصمون «حزب الله»، ومن ضمنهم عواصم عربية مهمة، بيد أن هؤلاء مطالبون بتقديم إجابة صريحة وشافية، تثبت أن سياسات المداراة والحرص والمساكنة المتبعة حتى الآن، قادرة على تحقيق أي شيء أكثر من توفير الدعم غير المباشر لميليشيا «حزب الله»، وإطالة حال الموت السريري التي يستثمر فيها الحزب. لنتفق أنه وبسبب من الطبيعة الاجتماعية لشريحة كبيرة من بيئة الميليشيا، وليس كلها بالطبع، فإن الحدود الدنيا من متطلبات العيش تظل مؤمّنة في حالة الموت السريري الراهنة، في حين أن الأمر ليس كذاك بالنسبة لمتطلبات البيئات الأخرى حياتياً ومهنياً. وبالتالي، فإن ما يُظن بأنه حبل نجاة للبنانيين المناهضين للحزب هو في الواقع حبل نجاة للحزب نفسه، عبر إعفائه من امتحان النتائج الحقيقية لسياسته. فالإلمام بالحد الأدنى من علم السياسة يفيد بأن بلداً محكوماً من ميليشيا إرهابية تهيمن بشكل شبه مطلق على كل ما هو مهم فيه، ينبغي أن يكون واقعه أسوأ بكثير من واقع لبنان الآن. إلا أن أطواق النجاة التي يتبرع بها الجميع، تخفف من هذا السوء، وتعطي انطباعاً زائفاً بأن ما ينسب إلى ميليشيا «حزب الله» من مخاطر على لبنان ليس سوى مبالغات من كارهين وحاقدين، ولا تساعد على فهم واقع الأذى الذي يسببه لبنان لنفسه وللآخرين.

في الواقعة الأخيرة مثلاً بين لبنان والسعودية، كان صعباً على كثيرين أن يفهموا أن الوقوف مع الحوثي شيء والوقوف مع الحوثي من موقع التحالف السياسي والحكومي مع «حزب الله»، أي الميليشيا التي تدرب وتسلح وتدعم القدرات الإعلامية للحوثي شيء آخر. ما يعجز الوزير جورج قرداحي عن فهمه بمعارفه شديدة التواضع، هو أنه ليس معلقاً غربياً أو عربياً، بل وزير في حكومة يمسك «حزب الله» بقرارها السياسي بشكل شبه مطلق؛ ما يجعل موقفه الأخير امتداداً سياسياً للعدوان الذي يشارك فيه «حزب الله» على المملكة من اليمن، لا موقفاً يندرج في سياق حرية التعبير أو الحقوق السيادية التي لجأ إليها الوزير لتبرير الفضيحة التي ارتكبها.

«حزب الله» ليس هو الأخطر على لبنان. الأخطر هو هذه الشريحة القرداحية التي تستسهل الوقوف إلى جانب «حزب الله» ما دام موقفها لا ترتب عليها أثماناً، بل ترشحها لمكتسبات من الطرفين؛ مكتسبات من «حزب الله» كالنيابة والوزارة والرئاسة، ومكتسبات من الدول «المكبرة دماغها» بالتجاوز عن صغائر قرداحية هنا وهناك!

هذه الشريحة، ولو أنها تتضاءل اليوم، هي التي مكّنت «حزب الله» من الوصول إلى ما وصل إليه. وهي التي كانت صاحبة الصوت الأعلى في التصدي لمن كانوا ولا يزالون منذ التسعينات يتصدون لميليشيا «حزب الله»، وتنعتهم بالتطرف واللامسؤولية ونكران الجميل. هذه الشريحة بينها مستثمرون كبار في دبي وأبوظبي والرياض، ممن باتوا وزراء وسفراء وفاعلين سياسيين لقاء تغطية «حزب الله» وتبييض سمعته ورش السُكَّر على مواقفه وسياساته.

آن الأوان لترك لبنان بالكامل لميليشيا «حزب الله»، ولأن تكون للصلة بالميليشيا أثمان فورية ومباشرة وفادحة، حتى على أقرب المقربين من عواصم العرب، من خلال التجريم المطلق لكل منطق يوفر سبل وأدوات تبييض السمعة التي يحظى بها الحزب الآن.

عندها فقط، وبعد فرز الناس بوضوح شديد، يمكن الحديث عن شريحة لبنانية تستأهل الوقوف معها والرهان السياسي عليها.

للأسف الشديد، لبنان مبنى آيل للسقوط، لا ينفع معه الترميم ولا تضييع الوقت بحصر الإرث بين سكانه، إذا كان يراد للبنان ولسكانه خير.

آسف يا وطني. آسف يا أهلي. ولكن الحقيقة يجب أن تقال ولو ضد الذات، إن كنا نريد مستقبلاً.