أن يكون حزب الله على خلاف مع القوى السياسية المعارضة، فهذا أمر صار تقليدياً. المشكلة التي تكبر يوماً بعد آخر، هي في نظرة القواعد الشعبية للمعارضة إلى الحزب، والتي ازدادت حدّةً في السنوات الماضية
لم تكن كلمة «احتلال إيراني» التي أطلقها النائب السابق فارس سعيد لتأخذ البعد السياسي الذي أخذته لو لم تحصل متغيّرات في شارع معارضي حزب الله. هناك وقائع في النظرة الى الحزب لم تكن موجودة بهذا الوضوح في السنتين الأخيرتين.
تنقسم علاقة القوى المعارضة الحالية مع حزب الله الى ثلاث مراحل: مرحلة اللقاءات الحوارية (في بيروت وأوروبا) خلال الوجود السوري، مرحلة المعارضة التصاعدية ومن ثم التسويات لدى بعض المعارضين بدءاً من عام 2005، ومرحلة المعارضة التي أخذت أشكالاً أكثر حدّة منذ نحو سنتين.
لم يكن أداء حزب الله إبّان تظاهرات 17 تشرين وحده ما غيّر نظرة شريحة لا يستهان بها من القواعد الحزبية والدينية والجامعية إليه، وإن كان هذا الأداء المؤشر العلني الأول. فقد تفاوتت النظرة الى الحزب في المراحل الثلاث، والمفارقة أن القاعدة الشعبية لدى معارضيه ظلّت على «توجّسها» منه ولو أبرمت قياداتها اتفاقات تسوويّة. مشكلة الحزب مع هذه القاعدة أنه اعتبر أن الاتفاق من فوق قادر أن يتسرب الى الصفوف الثانية والثالثة والخلفية، رغم أنه يعرف، مثلاً، أنه حين أبرم تفاهم مار مخايل كان نواب عونيّون ولا يزالون، رغم تصريحات الإشادة المتكررة، ضد التفاهم.
مرحلة الوجود السوري كانت، بالنسبة الى دوائر حزبية مختلفة سنية ودرزية ومسيحية، أفضل المراحل التي سبقت عام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري حين كانت العلاقة سويّة مع الحزب لأسباب موضوعية. إذ لم يكن الحزب فاعلاً الى هذا الحد في الواقع السياسي ومتدخلاً في كل شاردة وواردة في السلطة القائمة، ولم يكن معارضوه المسيحيون بهذا الحجم من الحضور، وبعضهم كان ملاحقاً من النظام السوري، في حين كان معارضوه من سنّة ودروز يدورون في فلك النظام السوري.
في عز الحملة التي شهدها الحزب، بعد عام 2005 وقيام المحكمة الدولية وانقسام الشارع بين 8 و14 آذار، لم يبلغ معارضوه هذا المستوى من الرفض والحدّة الذي بلغوه اليوم في التعامل معه. وإذا كانت حملة «أحب الحياة» اعتبرت في تلك المرحلة موجّهة ضد الحزب تحديداً، إلا أن مسار العلاقة بين الجمهوَرين خفت تشنّجه بفعل حرب عام 2006، لكنه سرعان ما استعاد هذا التشنّج بعد 7 أيار 2008، قبل أن تؤدي التسوية السنية ــــ الشيعية لاحقاً إلى تخفيف الاحتقان، لكنها بقيت تسوية فوقية ولم تصل الى الجمهور العريض. ومع صعود الحزب في الحياة السياسية وتحوّله رقماً صعباً، تغيّرت المعادلة في تعامل القوى السياسية معه، تدريجاً من جهة تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، ثم عززت التسوية الرئاسية نفوذه، وخصوصاً في ظل علاقة هادئة مع القوات اللبنانية.
في السنتين الأخيرتين، ولا سيما في الأشهر الأخيرة، حدث الشرخ الذي كان لا يزال يغطي علاقة المكونات اللبنانية بعضها ببعض. كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، بعد حادثة الطيونة، كشف من زاوية الحزب ملامح هذا الشرخ. لكن نظرة الآخرين إلى الحزب من موقعهم لا تعبّر عنها حقيقة إلا بعض المشاهد في اللحظات الحاسمة، والتعابير وردود الفعل. وليست حوادث شويا وخلدة والطيونة إلا الظاهر ممّا تخفيه القواعد والقلوب والعقول.
لا يمكن التعامل مع اعتراض قوى مسيحيّة على أداء الحزب فقط من منظار الاستخفاف بهذه القوى
أحد المؤيدين للتيار الوطني الحر كان يرفع صورة السيد نصر الله في منزله. لكن، بعد حادثة الطيونة لم تعد الصورة في مكانها. والكلام هنا عن التيار، ليس لتوجيه الأنظار الى تيار سياسي حليف، بقدر هو تعبير عن بعض الدلالات الشعبية في التعامل مع الحزب حتى لو كانت قيادة التيار على تنسيق ووفاق دائمين معه. الأمر نفسه حصل أثناء تظاهرات 17 تشرين وإن بمستوى مختلف. ردّ فعل أحد العونيين المخضرمين ممّن لم تُمحَ الحرب بعد من ذاكرته، وكان على خلاف دائم مع عائلته بسبب تأييده لحزب الله، أبدى استعداده لحمل السلاح إذا ما استمرت معركة الطيونة. وهناك نماذج أكاديمية، لا يمكن إلا التوقف عندها في نظرتها الجديدة للحزب من زاوية مختلفة.
الأكيد أن التيار سيتبرّأ من تعميم هذه النماذج على قاعدته. لكن قيادة التيار تعرف جيداً أنه في مقابل مجموعة لا تزال ترى في الحزب حليفاً استراتيجياً، فإن النماذج السابقة موجودة، وبقوة، في قاعدة تساوي في أحيان كثيرة بين عدائها للحريري وموقفها المعترض على أداء حزب الله. وهناك مناصرون للتيار لم يعودوا في الحماسة نفسها حين يأتيهم مقرّب من الحزب ليشتري قطعة أرض. منظار العلاقة بعد الطيونة اختلف، حتى لدى السماسرة.
القواعد الأخرى من الحزب التقدمي الاشتراكي والمستقبل ليست من باب تحصيل الحاصل، في موقفها المعادي لحزب الله. في الشرائح الدرزية (الاشتراكية) والسنيّة، لم يعد في استطاعة جنبلاط أن يفرض أي إيقاع انتخابي مثلاً، في غير الاتجاه الذي تتلاقى معه. يوازن جنبلاط سياسياً بين علاقته مع حزب الله وموقفه المعترض على أدائه، والحزب يتعامل مع جنبلاط وفق هذه الخصوصية. لكن إقناع الناخبين بالتفاهم مع حزب الله أو بالتصويت ليس للحزب بل للتيار حليفه أصبح من سابع المستحيلات. الأمر نفسه ينسحب على الناخبين السنّة. في الشمال السنّي، أو بيروت والبقاع، الأمر محسوم لدى قواعد القوى المعارضة، في «التصويت ضدّ» وليس «التصويت مع». وهنا يصبح الخصم كلّ من له علاقة بحزب الله والتيار الوطني، من دون التفريق بينهما.
ولا يمكن التعامل مع اعتراض قوى مسيحية على أداء حزب الله وتبدّل صورته فقط من منظار الاستخفاف بالشخصيات (ولا سيما الجدية منها) التي تنتقده أو بالقوى التي تعارضه. لأن هذا الكلام يعبّر عن مزاج شعبي يتوسّع، وازداد حدّة بعد حادثة الطيونة وخطاب نصر الله حولها، وهو كلام يصبح أكثر تجذراً حين يصبح على لسان نخب أكاديمية ودينية لم تكن الى وقت قريب تتحدث به، أو تعبّر عنه بهذا الوضوح، وصارت تردد عناوين وشعارات وحوادث متداولة. من الطبيعي أن يكون هناك طامحون في السياسة لتقديم خدماتهم للسعودية وكسب ودّها في هذه المرحلة من باب العداء لحزب الله. لكن اختصار مشكلة الحزب وصورته لدى «الآخرين» بالعلاقة مع السعودية أو واشنطن، هو تقليل لها. إلا إذا اعتبر حزب الله أن هذا الوضع لا يزعجه ولا يربكه، لأن صناديق الاقتراع الخاصة به لا تأخذ في الاعتبار هذا الكلام. لكن صورة حزب الله لا علاقة لها بالانتخابات، بل بالصورة العامة التي تحتاج الى مراجعة والتعامل بجدية مع هذا الرفض المتصاعد له في قواعد بعضها غير معروفة بأنها تكنّ له العداء. فمشهد توزيع المازوت الإيراني الذي كسب به ودّ بلديات وقوى حزبية، ينتهي مع احتراق المازوت، لأن البلديات نفسها والمستفيدين أنفسهم يتعاملون على قاعدة المصالح الخدماتية مع جميع القوى. والمصالح الانتخابية الظرفية لا تلغي أن هناك عناوين سياسية وشعبية لم تعد تجد لها صدى شعبياً لدى خصوم الحزب. والقضية لا تتعلق هنا بمأكل ولا مشرب أو لباس. هناك ما هو أعمق من ذلك. مشكلة حزب الله مع القوى الأخرى ليست في خطاب القيادات السياسية من الصف الأول لأن لهذه القيادات حساباتها الخاصة وتسوياتها السياسية. المشكلة الحقيقية هي في القاعدة. وهي اليوم على خصومة مع الحزب أكثر من أي وقت مضى.