هوامش المناورة تضيق ..فهل يحوِّل حزب الله «المأزق» إلى فرصة؟
رغم مرور ستة أيام على إعلان زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري تعليق مشاركته وتياره في الحياة السياسية، وما أحدثه من اهتزاز سياسي، لا يزال «حزب الله» صامتاً، وكأنه يقول إن الصمت هو الموقف. لا شك أن بيان الحريري نزل على «حزب الله» برداً وسلاماً. فالرجل لم يُحمّل «النفوذ الإيراني» وحده مسؤولية «غياب أي فرصة إيجابية للبنان»، إنما وضعه إلى جانب عوامل أخرى هي «التخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة». هذا كلام يريح الحزب وينظر إليه بعين الرضى، في وقت كان يمكن لبيان الحريري أن يكون عالي السقف والنبرة في وجهه، خصوصاً أن الحريري وضع التسويات التي أتت على حسابه، في خانة منع الحرب الأهلية، قاصداً الفتنة السنية- الشيعية.
ينسب بعض عارفي «حزب الله» صمته ربما إلى الرغبة بالابتعاد بحيث لا يكون جزءاً من المعنى السلبي لمشهد الخروج على أقله لجهة استثارة المشاعر ضده في وجدان «الشارع الأزرق» في هذه اللحظة، ما يفسر حجم انضباط جمهور الحزب الذي ما كان ليفوت فرصة «الاحتفال» لو كان مُطلق اليدين واللسان. يراقب الحزب «المزاج العام» لبيئة «المستقبل»، فلا يراه معبأ بروح المواجهة والاستشراس في اتجاه، ولا يرى أنه سيكون كذلك، ما لم يحصل «حدث ما» يغير من مزاج أسى هذا الشارع ويجعله يتموضع من جديد في وجهه.
صمت حزب الله حتى لا يكون جزءاً من المعنى السلبي لمشهد الخروج
في السياسة، يتهيب «حزب الله» الواقع الجديد بعد سنوات مما يعتبره «دوراً وظيفياً» أدَّاه الحريري وسهّل عليه الكثير في المواجهة المنخرط فيها في الإقليم كجزء من المشروع الاستراتيجي لـ«المحور الإيراني». لا تخرج حدود العلاقة مع الحريري عن هذا «الدور»، وتختلف جذرياً عن علاقة شريكه في «الثنائي الشيعي» نبيه بري مع زعيم «المستقبل» أو زعيم «المختارة» وليد جنبلاط، وإنْ كانت تلك الشراكة بين الثلاثي بري- جنبلاط- الحريري هي الأخرى ركيزة بنى عليها جسوره في الداخل، وكانت جزءاً من مرتكزات قوته على الساحة اللبنانية. ذاك «المثلث»، في رأي لصيقين بالحزب، شكَّل منطقة عازلة له.
اليوم، تختفي هذه المنطقة العازلة مع خروج الحريري وانكفاء جنبلاط واهتزاز موقع بري الذي، رغم خصوصية علاقته بالحزب، فإن اكتسابه دوراً استثنائياً على الصعيد الوطني ارتكز في واقع الأمر على تحالفه المعلن مع الحريري وجنبلاط. وسيؤول ذلك إلى انكشاف المواجهة مع القوى التي ستتقدم إلى الصف الأمامي، وفي مقدمها حزب «القوات اللبنانية ورئيسه سمير جعجع وأحزاب ومجموعات سياسية ستخوض معركة سياسية ضد الهيمنة الإيرانية.
بالطبع، ينظر «حزب الله» الى أن انسحاب الحريري من المشهد السياسي الداخلي هو نتاج ضغط خليجي وتحديداً سعودي، وأنه يأتي في سياق التصعيد الذي تشهده ساحات تواجد أذرع «المحور» من اليمن إلى العراق فغزة وسوريا ولبنان، والتي وصفها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بالساحات المترابطة. ويتزامن ذلك مع المبادرة التي حملها وزير الخارجية الكويتي بوصفها مبادرة خليجية- عربية- دولية، وتضمنت من بين بنودها التقيد بتنفيذ القرار 1559 ولاسيما بند نزع سلاح المليشيات، الذي يستهدفه مباشرة.
عاد هذا القرار ليكون سيفاً مصلتاً على رقبته في وقت تضيق لديه هوامش المناورة، وتضيق لدى الدولة بمؤسساتها الرسمية ولدى القوى السياسية القدرة على الالتفاف على المطالب الدولية والعربية، فيما ينازع لبنان اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ويحتاج شعبه أدنى مقومات الحياة. واقع لبنان الذي ينتظر خشبة خلاص من خلال صندوق النقد الدولي وعودة إلى الحضن العربي والمجتمع الدولي لن تكون أمامه خيارات عدة ولا فترة سماح، ولا سياسة غض طرف أو مهادنة. فالقرار المتخذ بأنه آن الأوان للدولة أن ترسم خطاً فاصلاً بينها وبين «حزب الله»، فإذا ما حمل وزير خارجية لبنان رداً واضحاً خارج الأدبيات اللبنانية والكلام الانشائي، فإن لا أمل بالالتفاتة إلى لبنان، وبالتالي على اللبنانيين أن يتحملوا النتائج. يعرف «حزب الله» أن هذا المنطق سيؤدي في نهاية المطاف إلى وضع الناس في مواجهته، خصوصاً إذا ما تفاقم الاختلال السياسي في البلاد. وسيكون عليه تالياً أن يتراجع خطوة أو خطوات إلى الوراء في عملية احتوائية منعاً للانفجار الاجتماعي الآتي الذي لن تفيد معه كل الشعارات التي يحملها «محور الممانعة».
يعمل «حزب الله» على قاعدة تحويل أي مأزق إلى فرصة، وهو ما يدفع ببعض المراقبين الى التساؤل عن الاتجاه الذي سيسلكه في مقاربته تطويَّ انسحاب الحريري من المشهد السياسي والمبادرة العربية وتداعياتهما عليه. في التطور الأول، يرى الحزب أن إزاحة الحريري ربما كانت سهلة لكن خلق بديل حقيقي لمواجهة الحزب ليس سهلا لا بل هو امتحان صعب. فهو عملياً لا يعير كبير أهمية للأسماء المتداول بها كبدائل، وإذا قرر خوض المعركة الانتخابية، يمكنه أن يحقق فوزاً مضموناً.
أما في التطور الثاني، فلا توقعات بحصول اختراق. فالمقدمات التي تجلت بـ«ترحيب» رئيس الجمهورية واعتداء «الأهالي»- الاسم المستعار للحزب- على «اليونيفل» جنوباً، أعطت ملامح عن الرد بجعبة عبدالله بو حبيب الى اجتماع وزراء الخارجية العرب السبت. لكن ثمة من يرى أن الحذر الذي يبديه الحزب قد يؤول به للدفع إلى طاولة حوار بهدف درس مستفيض للمبادرة كما للمأزق السياسي العام. مؤتمر للحوار يمكن معرفة أجندته لكن لا يمكن أبداً معرفة نتائجه ولمصلحة من وعلى حساب من ستأتي؟.