بلد مُخلّع الأبواب، مُشلّع الأجواء، مُتداعي الأطراف، مسلوب الإرادة، ومجهول المصير، هذا هو لبنان في القرن الثاني والعشرين، وبالضبط في الأشهر الأخيرة من ولاية أسوأ العهود في مسيرة الإستقلال.
لم يعد اللبناني يعرف من أين تنهال عليه المصائب والمحن: من صراعات المكاسرة والكيديات التي تحكم أطراف السلطة، أم من الإنهيارات الإقتصادية والمالية والنقدية المتتالية منذ أكثر من سنتين، أم من تداعيات كارثة إنفجار مرفأ بيروت وهول ما أصاب المدينة وأهلها من ويلات، أم من عجز المنظومة السياسية على إدارة الأزمات العاصفة، بعد فشلها في طرح الخطط المناسبة للمعالجات والحلول اللازمة.
ولكن كل هذه الاعتبارات في كفة، وماحصل في الأسبوع الماضي من مطاردة بوليسية لحاكم البنك المركزي رياض سلامة، والإدعاء على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، وما تلاهما من الرسائل الجوية المثيرة بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، في كفة أخرى.
وإذا كانت الكفة الأولى أصبحت من اليوميات المملة، رغم آلامها المستفحلة في الجسد اللبناني، فإن وقائع الكفة الثانية، نزعت ورقة التوت عن آخر عورات الدولة الفاشلة، والتي تجاوزت معايير الفشل فيها كل النسب المتعارف عليها دولياً، حتى في أكثر البلدان تخلفاً في العالم.
لم يحصل في تاريخ الدول والأمم، أن تُقدِم سلطة على مطاردة مسؤول مالي رفيع، بمستوى حاكم البنك المركزي، وهو يُمارس مهامه القانونية، ويتمتع بالحصانة الكاملة التي يوفرها له مركزه. لم تتجرأ سلطة الملاحقة على عزله من منصبه. وما زال يحظى بتأييد وثقة أفرقاء سياسيين في الحكومة وخارجها، لأنه يُشكل طرفاً أساسياً في المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي، ومحور تواصل مع المؤسسات المالية الدولية، وبنوك مركزية في عشرات الدول الأوروبية والآسيوية.
تعددت الدوافع لمثل هذا التردي في ممارسة السلطة، سواء السياسية العامة أم القضائية، ولكن يبدو أن آخرها كان رفض البنك المركزي صرف سلفة نصف مليار دولار لوزارة الطاقة ومؤسسة الكهرباء، بناء لرفض رئيس الحكومة وغالبية مجلس الوزراء على تقديم أية سلفة جديدة للكهرباء قبل وضع خطة إصلاحية شاملة، في مقدمة بنودها تسمية الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، الذي يشترط صندوق النقد تشكيلها كشرط أساسي لتقديم المساعدات المالية اللازمة لمؤسسة الكهرباء.
بقي أن نُذكّر أن قرار إنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء متخذ في مجلس الوزراء منذ عام ٢٠٠٢، وأن مجموع السلف السنوية للكهرباء يصل إلى حدود مليار دولار، وأن عجز الكهرباء، نتيجة الفساد والهدر وسوء الإدارة، وصل إلى أكثر من ٣٥ مليار دولار من أصل المديونية العامة.
أما بدعة الإدعاء على المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان فلا سابقة لها في تاريخ القضاء اللبناني، ولا حتى في أكثر الدول ديكتاتورية، حيث تتم ملاحقة مسؤول أمني رفيع، بمستوى قائد لجهاز أمني كبير وفاعل، وله إنجازات يومية في حماية أمن البلد وإستقراره. وبدا واضحاً أن الإدعاء القضائي لم يكن كيدياً وإنفعالياً وحسب، بل جاء أيضاً لتغطية الفشل المريع في ملاحقة الحاكم سلامة، وعدم تمكن مطارديه من جهاز أمني، مثير للجدل حول مهماته، من العثور عليه في أماكن تواجده المعتادة.
وجاء رفض وزير الداخلية القاضي بسام مولوي لتسلم مذكرة الإدعاء، ليقطع الطريق على المصطادين في مياه العدالة لتحقيق غايات ومآرب أنانية وشخصية مشبوهة، والنيل من رموز محترمة والقضاء على ما تبقى من هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية.
طبعاً مهزلة الملاحقات القضائية لم تنته فصولاً بعد، ولن يرتدع أصحابها عن تجاوز القانون وأصول المحاكمات، طالما بقيت الكيدية وأساليب الإنتقام الشخصي هي السائدة في ممارسات هذه السلطة المتداعية.
إنتقال المواجهة من الأرض للجو بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، كان بمثابة مفاجأة صادمة على طرفي الحدود. مسيّرة حزب الله اخترقت الحدود، وجالت في جولة إستطلاعية دامت أربعين دقيقة، من دون أن تتمكن الدفاعات الإسرائيلية من التصدي لها وإسقاطها، فجاء الرد الإسرائيلي مباغتاً عبر غارة وهمية على بيروت، وخرق جدار الصوت على إرتفاع منخفض فوق الأحياء السكنية.
قد يكون هذا التطور البالغ الأهمية عنوان مرحلة جديدة، ليس في المواجهة بين الحزب والعدو الإسرائيلي وحسب، بل وأيضاً في تعاطي الحزب مع الأوضاع الداخلية، وخاصة على الساحتين السياسية والأمنية، عشية استحقاقين مفصليين: الإنتخابات النيابية في أيار المقبل، والإستحقاق الرئاسي في تشرين الأول من هذا العام.
لا ندري إذا كان حديث السيادة بقي له معنى، أمام إصرار الحزب على إستعراض عضلات فائض القوة في الداخل والخارج، في الوقت الذي يكتفي خصومه في عقد المؤتمرات وترديد الشعارات.
وثمة كلام لا مجال له اليوم في هذه العجالة.