سيكون «حزب الله» أمام تحديّين رئيسيين في 15 أيار المقبل، التاريخ المُفترض لإجراء الانتخابات النيابية.
الأول هو دحض كل ما سوّق له أخصامه والأعداء عن تراجع ملحوظ في شعبيته، تحديدا منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. والثاني، ولعله الأهم،تعويم حليفه الكبير مسيحياً، «التيار الوطني الحر»، بعد تدهور في شعبية الأخير يعمل العهد، رئاسة الجمهورية والتيار، على تقليل فجوته بينما يداهمه الوقت قبل الانتخابات
هذان الهدفان يأتيان في سياق مواجهة الحزب ما يعتبره حرباً عليه لضربه في الانتخابات، ما يعني أن «حزب الله» يتخذ الانتخابات استحقاقاً جدّياً ولعله سيكون الأهم في كل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها الحزب منذ قراره الكبير بدخول الندوة النيابية العام 1992 بعد نقاشات داخلية مستفيضة وظروف إقليمية ودولية هيّأت له سلوك ذاك الدرب.
خروج عن المظلومية
والواقع أن الحزب لم يحصل يوما على حصته المفترضة كاملة منذ ذلك الحين، سواء بسبب العامل السوري الراعي لخصم الحزب على الساحة الشيعية سابقا، أي حركة «أمل»، أو لعدم رغبة الحزب نفسه في الذهاب بعيدا في معاركه السياسية مراعاة لظروف داخلية دقيقة على صعيد الطائفة الشيعية أو غيرها حيث للحزب حلفاء كثر بغض النظر عن أوزانهم الانتخابية.
وهو خرج عن تلك المظلومية التمثيلية التاريخية في الندوة النيابية والوزارية، وباتت وراء ظهره لصالح تعويم خطابه المقاوم حيث لطالما بدا «حزب الله» يمارس «إزدواجية» على صعيد سياستيه الخارجية والداخلية، وكان الحسم دوماً لصالح الأولى وان كان الحزب تيقن مؤخرا أهمية العامل الداخلي لا سيما في هذه المرحلة التي يتعرض فيها لهجوم خارجي حاد متعدد الأوجه سيدفعه أكثر الى محاولة الظفر بالأكثرية النيابية.
أولوية الخارج
هذا اليقين لا يعني أن أولوية الصراع الخارجي ستتراجع لصالح العنصر الداخلي أو ان توازيه حتى، لكن التحدي المعيشي في وجه «الحصار» سيفرض عليه مقاربة مختلفة ليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل في الخطاب لإعادة ثقة شرائح شعبية شككت بهذا الخطاب ومنها من هو في بيئة الحزب لا بل في جسمه التنظيمي.
وبنظرة الى القرارات الكبرى التي اتخذتها قيادة الحزب في السنوات الماضية، وخاصة في زمن أمينه العام الحالي السيد حسن نصر الله، وهو الذي عاصر زمن السلم الداخلي، فإن الحزب لن يجاري ما ينادي به معظم من يؤيده وعلى رأس تلك المطالب فك تحالفه مع قوى ثار عليها الكثير من اللبنانيين في 17 تشرين وتعرضت لانتقادات جمّة قبل ذلك بسنوات حتى.
لذلك أسبابه الكبرى كما يشرحها المقربون من الحزب وكما تظهر للعلن أيضاً.
فالحرب التي يخوضها ضد الخارج لا تسمح له باتخاذ قرار جاد بضرب فساد الداخل مع الإقرار بأحقية مطالب معارضي المنظومة الحاكمة التي تسلمت البلاد فور بداية ما سميت بمرحلة السلم الأهلي بعد إنهاء ظاهرة العماد عون في 13 تشرين الأول 1990.
ولذلك ليس على مناوئي المنظومة التأمل كثيراً بانقلاب دراماتيكي للحزب قبل أسابيع من الانتخابات النيابية التي يعمل عليها الحزب بجديّة مع رفع شعارات محاكية لاعتراضات الشارع سيقوم بتقديم برنامج انتخابي يوازيها مع تظهير وجوه نيابية جديدة قد يتمحور عددها حول رُبع كتلة الحزب في البرلمان اللبناني أي «كتلة الوفاء للمقاومة».
وتحت شعار «باقون نحمي ونبني»يريد الحزب بذلك الإقرار بأهمية توجيه خطاب يحاكي التطلعات الجديدة، في موازاة التشديد على عدم واقعية ترجمة الحضور الخارجي وقوة الحزب في الداخل ضد الفساد حيث المعركة الأصعب، علما أنها المرحلة الأكثر قوة للحزب منذ تأسيسه وهو ما يلفت إليه الذين خرجوا من رحم الحزب سابقا وباتوا اليوم معارضين شرسين له ومنهم من هو من جيل التأسيس العام 1982 وإرهاصاته.
تقريب بين «أمل» و«التيار الوطني الحر»
كانت مهمة الحزب في جمع شمل حليفيه الكبيرين حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، شائكة. الثاني تراجع بقدر وازن يدور حول نسبة الثلث تقريبا بعد موجات متتالية من الضربات الشعبية والإعلامية خاصة منذ 17 تشرين 2019. والثاني لم يقتصر تراجعه على هذا التاريخ بل بدأت مسيرة التراجع منذ زمن طويل ويتكأ على الحزب لتحصيل الغالبية العظمى من مقاعده النيابية، وكانت مهمة إقناعه بحلف مع التيار أكثر صعوبة نتيجة هذا العامل بالذات.
نجح «حزب الله» في تليين المواقف إذ أدرك الجميع ان المركب واحد وأي ثقب فيه ممنوع وتمكن الحزب من جمع المواقف على طريق تشكيل معركة واحدة وإن ليس في إطار جبهة موحدة تماما إذ سيكون لبعض الدوائر خصائصها، لكن تحت عنوان مواجهة المحور الموحَّد ضده ومن وراءه الذي يسعى الى ضربه إنتخابيا بعدما فشل بذلك عسكريا وأمنيا وأقتصاديا كما يؤكد قيادي في الحزب.
يقول «حزب الله» إنه أجرى دراسات إحصائية تُثبت حفاظه على الغالب الأعم من جمهوره وهو قادر على استقطاب الفئات المترددة كما فعل في الاستحقاق الأخير مع علمه بأن المهمة أصعب الآن.
وبعد التقديرات بأن الحزب سيفقد بعض المقاعد على أثر كل ما حصل، أدى انسحاب رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري من العمل السياسي وبالتالي الانتخابي، الى ارتفاع قدرة الحزب على التجيير في المناطق السنية. هذا أقله حتى كتابة هذه الأسطر إذا ما افترضنا أن الجمهور المستقبلي سيبقى من دون قيادة.
يأتي ذلك رغماً عن الحزب كونه تمسك بالحريري دوماً إذ ان الاخير يمثل الجهة المعتدلة القادرة على التفاهم مع الحزب وعقد التفاهمات مع حلفائه. لكن متابعين لمواقف الحزب يؤكدون أنه حريص على الصيغة المذهبية التهديئية مع ترقب للمدى الزمني لغياب الحريري مع عدم استبعاد «حزب الله» ان لا يكون هذا الغياب دائماً (وربما رهانه على ذلك).
ترقب الصوت السني يتخذ معنى إضافيا وسط الاحتدام على خط بيت الوسط – معراب، واذا كان هذا الصوت لن يتوجه مؤيدا نحو الحزب أو في اتجاه «التيار الوطني الحر»، فإن تحييده عن مؤازرة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع يكفي على أقل تقدير بالنسبة الى الحزب والتيار.
الأمر نفسه بالنسبة الى الخروقات المتوقعة عند الطوائف الأخرى ما يتخذ معناه أيضاً من غياب القاطرة الحريرية. فيتوقع الحزب ان يحصِّل وحلفاءه نتائج ايجابية عند السنة والدروز في بيروت والجبل والشمال والبقاع ومناطق اخرى حيث سيكون لحلفه وزنا انتخابيا أو وزنا ترجيحيا لا سيما إذا ارتفعت نسبة الاقتراع الشيعي ما سيؤمن حواصل هامة.
وعلى صعيد التيار الحر فالحزب سيحاول تقليص الفجوة لدى الأول شعبياً عبر رفده بأصوات كافية لتحصيل بعض المقاعد، ومنها مثلاً في بيروت الثانية والجبل وبعلبك الهرمل، لكن ذلك لن يكون كافيا للتيار للعودة بكامل المقاعد التي حصّلها قبل أربع سنوات وسيخسرها اليوم.
بلد التوازنات
لكن في نهاية الأمر يؤكد الحزب، وعلى رغم الرهان على الانتخابات لمواجهة المعركة، ان هذا الاستحقاق نفسه لن يُجري، بغض النظر عن نتيجته، تغييرا يخلط موازين القوى القائمة في البلد المحكوم بالتوافق.
ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة وأكثرها دلالة انتخابات 2009 التي تقدم فيها المعسكر المناوىء للحزب ولم يتمكن من الحكم وقبلها انتخابات 2005، علما ان هذا المعسكر نفسه سرعان ما شابته الانقسامات قبل ان يتلاشى وينحسر انشطار البلاد بين معسكري 8 و14 آذار.
وفي التاريخ القريب يقع مثل حكومة حسان دياب ذات اللون الواحد نسبيا والتي حوربت من الداخل، والحزب يدرك أنه لم يتمكن من حمايتها من السقوط بعد ان تداعت أركانها لتعلن مأساة انفجار المرفأ في 4 آب 2020 نهايتها.
وبذلك لن يكون في إمكان أحد حكم بلد التوازنات وهذا سيكون حال انتخابات الرئاسة بعد اشهر التي لن تكون جذرية واستراتيجية مهما كانت هوية الرئيس (هذا في حال جرت الانتخابات ولم تدخل البلاد في فراغ رئاسي). ويعلم الحزب أن حلول حليف له في الرئاسة لن يسقط أخصامه – أعداءه من المعادلة، ولذلك سيكون على الرئيس المقبل الحصول على توافق محلي وخارجي مُفتقد حتى اللحظة.
الواقع أن «حزب الله» إتخذ أجيالا واستند الى تجارب سابقة له في لبنان وأخرى خارجية لقوى حليفة له في الحكم ومنها حركة «حماس» في قطاع غزة، ليستخلص بأن حكمه لوحده لا يفيده، ناهيك عن قدرته على ذلك فحدود قوته على الأرض تتوقف عند حماية المقاومة وتسييل هذه القوة في السياسة وهذا كان معنى ما حدث في أيار من العام 2008.
هل ترتبط التطورات بالانتخابات؟
وإزاء كل الاستحقاقات الحالية والمقبلة، يبدو «حزب الله» معنياًبجولات المفاوضات في فيينا التي باتت نتيجتها الايجابية مصلحة إيرانية أميركية أوروبية وإقليمية، وينقل مقربون منه تقديره الإيجابي لمآلاتها على المدى الطويل بينما لا يجيب على سؤال تسييل تلك النتيجة في استحقاق الرئاسة المنتظر أواخر العام الحالي مثلما ينفي أن يرتبط موضوع الانتخابات بالتطورات الحاصلة في الإقليم أو على صعيد الصراع مع العدو وكل مستجداتها العسكرية ومنها أخيراً المستجد النوعي بخرق أجوائه جوياً بهذه الشاكلة.
وبذلك فإن الإقليم الملتهب في بعض مناطقه لا يعكس الخروقات التفاوضية بين الجدران المُغلقة والتي تشير الى أن لا حروب كبرى اليوم، بل صياغة لنظام إقليمي جديد على نار هادئةفي ظل الإلتفات الاميركي نحو أقاليم أكثر جديّة له.